الانشقاق الصيني السوفيتي

 

"صراع الماوية واللينينية"

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.cim

حدثني أحد الأصدقاء مؤخرًا عن تجربته الشخصية وانطباعه الشخصي حين زار كل من بكين وموسكو في آواخر الستينيات من القرن الفارط بدعوة من قيادات حزبية في الصين وروسيا بقصد الاطلاع على تجاربهما في تطبيق الشيوعية.

وبدأت الزيارة ببكين ولعدة أشهر تخللتها زيارات ميدانية ومحاضرات ودروس مُعمقة عن الفكر الشيوعي الماوي الذي أنتجته الصين في العهد الجمهوري لبناء الدولة الصينية المعاصرة، ثم انتقل إلى موسكو في زيارة مماثلة في المدة والبرنامج كذلك. ما لفت نظر محدثي هو التنافس الكبير بين المدرستين ودفاع كل منهم المستميت عن أحقيته في النهج الشيوعي في الفهم والتطبيق، وكانت من أكبر العبارات التي سمعها مُحدثي من الجانب الصيني في توصيف الشيوعية اللينينية هو وصفها بـ"الشيوعية الإمبريالية" وهو وصف غريب وعجيب ويدمج بين فكرين سياسيين متناقضين في الظاهر وهما الشيوعية والإمبريالية والتي تنسبها الشيوعية للرأسمالية المتوحشة في آخر فصولها وقبيل انهيارها.

وحين غادر مُحدثي بكين ووصل موسكو سمع ورأى ما يطابق ذات النظرة والشحن من قبل الروس ضد الشيوعية الماوية، فكانت الدهشة عظيمة لمحدثي حين تبين له عمق الشرخ بين المدرستين في فهم نظريات العالم الاقتصادي/الاجتماعي كارل ماركس واستنباط ما يروق لكل منهم من فهمها ومساحة وممكنات تطبيقها.

كان محدثي ينظر بالكثير من الغرابة إلى وجهة نظر الصينيين وتوصيفهم للشيوعية اللينينية ويعتقد أنها ناتجة عن صراع عقائدي كبير بين المنظومتين والنظامين وصل إلى حد الفرز النهائي، وفي المقابل يعتقد بأن النظريات اللينينية هي أقرب إلى الواقع والتطبيق والانتشار بحكم شيوعها في العالم نتيجة الدعم والمد السوفييتي حول العالم مقارنة بحضور الصين الخجول في تلك الحقبة الزمنية.

بعد أن أتم محدثي الكلام عن تجربته وانطباعاته عقبت عليه من واقع قراءاتي ومعلوماتي المتواضعة عن التجربتين والأهم من ذلك هو استنطاق النتائج على أرض الواقع اليوم وعناوينها الأبرز انهيار المنظومة السوفييتية فكرًا ونظاماً وتغول المنظومة الصينية دولة وسياسات مع صمود ذات الفكر الماوي وتطوره ومرونته في التعاطي مع مقتضيات العصر وسيرورة التاريخ. وذكرت لمُحدثي أن الأيام برهنت أن الفكر الماوي كان أصلب وأكثر واقعية من الفكر اللينيني، على اعتبار أن الفكر الماوي نبع من حاجات الجمهورية وتطلعات قادتها مع التناغم التام والتوافقية الجلية مابين الفكر الشيوعي والفلسفة الكونفوشيوسية والموروث القيمي للحضارة الصينية، لهذا لم يستفز الفكر الماوي المجتمع الصيني في عقيدته وموروثه بل طورها ونما من خلالها فقادها بهدوء ومرونة وتطور بها فما جعل للماوية حاضن شعبي قوي في الصين هو تناغمها الواضح مع الموروث القيمي والتقاليد المهنية والعملية في المجتمع الصيني وتشجيعها ودعمها للفلاحة والمهن والحرف، ثم أتت الشيوعية الماوية في مرحلة لاحقة لتتسلح وتغترف من الموروث الفلسفي الكونفوشيوسي لمواكبة العصر وتطوير ذاتها ومراجعة نفسها دون أدنى شعور بالخجل أو التردد من النقد الذاتي البناء من داخلها أو النظر إلى اتهامات الآخرين- غير الموضوعية- لها بالانقلاب على ثوابتها وقناعاتها، فكان الحصاد اليوم دولة عملاقة ونافذة بكل المقاييس، حيث أثمرت الماوية مجتمعا صينيا متناغما مع واقعه وسياسات قيادته وملتفًا حول وطنه ومكاسبه، فالماوية التي دعمت الاقتصاد التقليدي للصينيين ولم تتنكر له- وهي قاعدة اقتصادية علمية صحيحة - استطاعت لاحقًا وبكل ارتياح تنفيذ استراتيجية القدمين وهي التصنيع الزراعي من فائض المنتجات الصينية والذي غزا العالم اليوم، حيث اعتبرت الماوية قطاع الزراعة القدم الواحدة أولًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، وشمل الأمر كذلك تطوير جميع القطاعات التقليدية الموروثة الصناعية منها والحرفية وفق استراتيجيات بعيدة المدى.

بينما قفزت الشيوعية اللينينية على جميع مكونات الموروث القيمي والحضاري للمجتمع الروسي القيصري من دين وعادات وتقاليد ومكونات بشرية وفككتها وأعادت تركيبها مجددًا بصور أقرب إلى التضاد والكراهة والقسر في كامل جغرافياتها، واتجهت إلى التصنيع الثقيل إلى حد الهوس وعلى حساب قطاعات إنتاجية أخرى كالصناعات التحويلية والصناعات المتوسطة والصغيرة وقطاع الزراعة فكان حضورها في خارطة الاقتصاد العالمي حينها ولغاية اليوم حضورا تسليحيا بالدرجة الأولى كثمرة من ثمار الصناعات الثقيلة في عهد الزعيم يوسف ستالين، أما بقية الصناعات فحضورها لازال خجولًا ومحدودًا، والنتيجة اليوم أمام أعيننا حيث لم يعد للشيوعية اللينينية من أثر أو وجود يُذكر في بلاد نشأتها الأولى روسيا سوى حزب صغير ومحدود التأثير في مجلس الدوما. 

الشيوعية اللينينية أجهزت على النظام القيصري حامي ورمز الكنيسة الأرثوذوكسية وأجهزت على الكنيسة ثم الموروث الإيماني لشعوب الجمهوريات السوفييتية ثم عبثت بالديموغرافيا السوفييتية بالتهجير والترحيل لإحداث تغييرات في المكونات الطائفية والعرقية وإعادة إنتاجها وفق الرؤية الشيوعية اللينينية، وأغلب قادة الثورة البلشفية عام 1917م كانوا من اليهود الروس، بل وأبرز قادتها من غير اليهود كلينين وتروتسكي كانا متزوجين من يهوديات، وهذا يضع علامة استفهام كبرى على دور اليهود ومصلحتهم في الإجهاز على القيصرية والكنيسة الشرقية وإعادة إنتاج الدولة ومكونات المجتمع وفق نظرية تبدو للعالم معادية لمكونات الشخصية اليهودية ونفسيتها الجشعة ولكنها في الباطن تحمل رسالة إمبريالية ومهمة كنسية غربية لمواصلة أهداف الغرب وسعيهم الدائم لتحطيم روسيا القيصرية كمدخل مريح لتحطيم الكنيسة الشرقية الأرثوذوكسية بأي ثمن وتحت أي عنوان، لهذا أتت الثورة البلشفية غريبة على الروس وأدخلت معها كل غريب عليهم وصادرت كل مألوف لهم فتحملوها بخوف ورهبة حتى زالت دون طقوس أو مراسم، حيث استعاد الروس بعدها كل موروثهم الروحي والقيمي والحضاري وبقوا أوفياء لكنيستهم وانتمائهم الشرقي وعادت القيصرية في ثياب معاصرة كجمهورية تواكب العصر وبرئاسة قيصر يدعى فلاديمير بوتين. والغريب العجيب في موروث الثورة البلشفية أنها تُجرم أي حديث عنها بعلمية وموضوعية منذ نشأتها ولغاية اليوم، كتجريم الغرب - ولغاية اليوم - لأي حديث علمي وموضوعي يتناول النازية أو حقيقة  المحرقة النازية لليهود. فنظرة الشيوعية الماوية الصينية وتوصيفها للشيوعية السوفييتية كشيوعية إمبريالية تبدو اليوم أقرب إلى الواقع باستعراض تاريخ الثورة وأسبابها وأهدافها ورموزها وقادتها ثم ممارساتها على الأرض ومراحلها وصولًا إلى انهيارها وانهيار دولتها عام 1989م.

لم يكن ماوتسي تونج زعيمًا عاديًا كبعض الزعماء ممن يتوقون للسلطة وقيادة أوطانهم وإصلاح عثراتها وتنميتها، بل كان زعيمًا طليعيًا استثنائيًا يتوق ويحلم بإعادة إنتاج الصين كدولة وحضارة وتسويقهما للعالم بأدوات العصر ومقتضياته، لهذا انفتح الرفيق ماو خلال ثورته الثقافية ورحلته الفكرية على ثقافات العالم قاطبة وتجاربه التاريخية وغاص في موروث البشرية شرقًا وغربًا – كزعيم ومفكر ومنظر صاحب رسالة وقلم ومشروع - ليثري تجربته ويحصنها من العثرات والضمور، حيث يذكر المناضل العربي الفلسطيني أحمد الشقيري لقاءه الأول مع الزعيم ماو في منتصف الستينيات من القرن المنصرم بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية برعاية الزعيم الخالد جمال عبدالناصر ورئاسته لها؛ حيث أطرى المناضل على الزعيم ماو وأبدى له إعجابه الشديد بالثورة الثقافية في الصين، حينها قاطعه الزعيم ماو وقال له: لقد استفدت من تجربة نبيكم محمد والذي أقام نواة لدولته في المدينة حين تعذر عليه فتح مكة!

العقلية الصينية متأثرة بالفكر الكونفوشيوسي

"فليقم الأمير بدوره كأمير، والتابع كتابع، وليقم الأب بدوره كأب، والابن كابن".. كونفوشيوس؛ ويعني أن يؤدي كل فرد عمله بجدية وإخلاص. ووصف السياسة بالقول: "إنها الإصلاح، فإذا جعل الحاكم نفسه أسوة حسنة لرعيته، فلن يجرؤ أحد على الفساد". كما ساعد تأثير الفكر الكونفوشيوسي على العقلية الصينية اللينة كثيرا في الحفاظ على الاستقرار السياسي في الصين:

سياسة المراحل والإصلاح

"لا يهم السير ببطء طالما أنك لا تتوقف عن السير".. كونفوشيوس.

"العاقل لا يخجل من إصلاح عيوبه".. كونفوشيوس.

-------------------------------

قبل اللقاء:

حقيقة ما يؤرق الغرب اليوم في التجربة الصينية ليست الطفرة الاقتصادية الهائلة ولا في النفوذ الاقتصادي العالمي المتفرد، ولا في إحلال وتطبيق نظرية الحزام والطريق والتي أسقطت نظرية التنافس وأحلت محلها الشراكة والندية في العلاقات الدولية والتعاون الدولي، بل في صمود الشيوعية الماوية أولًا ومناعتها من كل غزوات الغرب ومؤامراته، وفي فضح الصين للنظرية الغربية المستهلكة والتي تروج لها الدوائر الغربية للهيمنة وتكريس التبعية للشعوب المستهلكة للفكر الغربي وهي نظرية "لا تنمية بلا ديمقراطية" والصين نمت وتغولت وسادت العالم وبلا ديمقراطية، بل بقيم حضارية وفكر مرن مستنير.

وبالشكر تدوم النعم.