د. عبدالله باحجاج
صدر يوم التاسع من سبتمبر الجاري تعميم رقم 3/2019، من وزارة الخدمة المدنية ينتصر لمبدأ المساواة التي يقرها النظام الأساسي للدولة في الكثير من المواد الأساسية وقد بدا لنا التعميم في خلفياته مستهدف قضية واحدة مثارة للجدل رغم صفة التعميم الواردة فيه، وهي قضية مدرسي اللغة الإنجليزية بالكليات التقنية التابعة لوزارة القوى العاملة، لأننا هنا، لا ينبغي أن نفصل هذا التعميم عن توقيته، ولا عن القضية التي انتجت هذا التعميم، وقد تناولناها في عدة مقالات ورقية وإلكترونية.
فاصل القضية باختصار، أنَّ وزارة القوى العاملة تتعاقد سنويًا مع شركات خاصة لتوفير المدرسين بما فيهم العمانيون لشغل وظائف في كليات التقنية، ومنحهم نصف مرتبات نظرائهم في المهنة ودون امتيازات على عكس الكليات الأخرى، ككليات العلوم التطبيقية التابعة لوزارة التعليم العالي التي تلجأ إلى تعينهم مباشرة ووفق قانون الخدمة المدنية.
فبرزت لنا هنا حالة عدم مساواة بين الموظفين، مزقت حقوق المواطنة، وشطرت السيكولوجيات، وأعطت الانطباع السلبي بأنَّ وراء هذه الحالة متنفذين كبار، صنعوها بقوة علاقاتهم من أجل مصالحهم الخاصة، وظهر المدرسون كطرف أضعف، وشكل ذلك مشهدًا مقلقًا، كرسه الصمت المؤسساتي الطويل رغم صرخات المدرسين التي تعج بها وسائل الإعلام والاتصال المختلفة.
غير أنّ صدور التعميم الآن من وزارة الخدمة المدنية، يرجع التوازن السياسي لمبدأ المساواة الدستوري، ويظل الهاجس تطبيق مبدأ المساواة الآن.. وقبل أن نتناول ذلك، من الأهمية التوقف قليلاً عند محتوى التعميم المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي ونقتطف منه هذه العبارة "تلاحظ لوزارة الخدمة المدنية قيام بعض وحدات الجهاز الإداري للدولة في سد احتياجات العمل إلى شغل الوظائف الشاغرة من العمانيين عن طريق التعاقد مع بعض شركات القطاع الخاص مُقابل التزام الوحدة بمبالغ يحددها العقد مع الشركة" وقد رأت الوزارة في ذلك إخلالا بمبدأ المساواة في تولي الوظائف العامة، وذلك من عدة نواحٍ أبرزها الالتزام باشتراطات شغل هذه الوظائف والمرتبات".
وملاحظات الخدمة المدنية جاءت متأخرة كثيرًا، فالاختلالات بمبدأ المساواة قد أخذت مدى وانتشاراً كبيرين، ورغم ذلك لم تتدخل إلا مؤخرا، بعد أن نتج عن هذا التأخير أضرار معنوية ومالية وأخرى متعددة.. للكثير من المدرسين، إن هذه القضية قد وصلت إلى أعلى المستويات من قبل عدة مصادر، تلاقت تراتبيا، وانتجت صوتاً واحداً للدفاع عن أصحاب القضية بعد أن كانوا يُعانون لوحدهم في صمت كامل.
هل يفهم من تعميم الخدمة المدنية أنَّ هناك حالات أخرى في وحدات حكومية تعاني من إشكالية الطرف الثالث المتربح؟ بمعنى آخر هل تنحصر ظاهرة الشركات الربحية الخاصة في كليات التقنية لوحدها أم وحدات أخرى كذلك؟ قد يفهم من عمومية التعميم تعدد الظاهرة، وقد يفهم منه أنَّ الخدمة المدنية أرادت بهذه العمومية تحصين الحقوق من حيث المبدأ، وجعله أي التحصين يستفيد منه الحاضر والمستقبل، لكن ماذا عن الماضي؟ فهناك مدرسون في الكليات التقنية قد تضرروا من ظاهرة شركات التوظيف بأضرار مختلفة، فمن الطبيعي الآن أن يستفيدوا من التعويضات، على اعتبار أنَّ التعميم قد جاء ليصحح الخطأ وليس منشئ لوضعية قانونية جديدة.
لكن، من المُؤكد- كما تناولنا ذلك في مقالات- أن قضية شركات التوظيف متغلغلة في الشركات الحكومية والعمومية، وحدث بلا حرج أو خجل، فالكثير من جيلنا الجديد، قد وافق أن تتقاسم راتبه شركات التوظيف الربحية مقابل حصوله على الوظيفة، وقائمة الشركات طويلة، بل إن هناك هيئات عمومية تتجه نحو تبني مسار شركات التوظيف الخاصة للانتفاع من المواطن البسيط والمحتاج للوظيفة عاجلاً.
ولو بحثنا في الخلفيات، فسنجد أن وراء هذه الشركات الربحية متنفذين كبار، يستغلون عرق وجهد وأموال مواطنين في أول سلم تكوين ذواتهم الإنسانية، فلماذا تستثنى من مبدأ المساواة "الدستوري والقانوني" في تولي الوظائف في شركات حكومية وعمومية؟ ستظل هناك معاناة كبيرة لأعداد متزايدة من شبابنا، وفي مقالات سابقة حددنا مجموعة شركات عامة لجأت للتعاقد مع شركات توظيف خاصة لتوفير عُمانيين لشغل وظائف فيها، من هنا نرى أنَّه إذا قد حلت مشكلة التوظيف في وحدات الخدمة المدنية، فإنَّ الهيئات والشركات العامة لا تزال تستغل راتب المواطن وتنتهك حقوقه، فمن ينتصر لهم؟
وقد كان تعميم وزارة الخدمة المدنية في قمة الصراحة التوجيهية وشفافيتها وذلك عندما اختتمت تعميمها بعبارة قاطعة الدلالة والزامية التطبيق وذلك عندما أكدت "أن تكون العلاقة الوظيفية في شغل هذه الوظائف الشاغرة بالتعيين علاقة مباشرة بين الموظف والوحدة".
ومن هذا النص ووضوحه، تعتبر وزارة القوى العاملة على وجه الخصوص معنية بهذا التعميم رغم عموميته، فسد شواغرها من العُمانيين لا يتم بصورة مباشرة بين كليات التقنية التابعة لها وبين المدرسين وإنما عن طريق شركات التوظيف الخاصة بعد أن تكون قد اقتطعت نصف مرتباتهم لجيوبها في تجارة رابحة ومضمونة، أصبحت الآن بحكم التعميم غير قانونية، وتتعارض من مبدأ المساواة أي مخالفة للنظام الأساسي للدولة.
ونستند هنا لمادتين أساسيتين في النظام الأساسي للدولة هما، المادة 17 التي تنص على أن "المواطنين جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم بسبب الجنس، أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الدين أو المذهب أو الموطن أو المركز الاجتماعي".
وجاءت المادة (12) من النظام الأساسي هي الأخرى مُقررةً مبدأ وجوب التزام العدل بين العمانيين في استحقاق التوظيف والحصول على الوظائف والمناصب الإدارية على أساس الكفاءة والتنافس والمؤهلات العلمية والعملية التي تؤهّل العماني للترشح لمثل تلك الوظائف والفرص، فقد نصت على أن "العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين العمانيين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة". وكذلك المساواة في الوظائف العامة في الدولة بالقول: "الوظائف العامة خدمة وطنية تُناط بالقائمين بها، ويستهدف موظفو الدولة في أداء وظائفهم المصلحة العامة وخدمة المجتمع. والمواطنون متساوون في تولي الوظائف العامة وفقاً للشروط التي يقررها القانون".
وعليه، فكل حالة تخالف هذا التعميم أو كل ترشيح لوظيفة معينة بأي جهة يتم بخلاف ذلكم التعميم بمرجعية تلكم النصوص الدستورية، فلا اعتداد به ويحق للمتنافس والمتضررين الطعن الإداري أمام جهات التقاضي المختصة إداريا بالنظر في طعون القرارات الإدارية والوظيفية كل في مجال اختصاصها.
لكن، من الأولى لوزارة القوى العاملة أن تصحح هذا الاختلال فوراً من تلقاء نفسها عبر تعيين المدرسين مُباشرة وفورا، وبأثر رجعي، وليس فقط تطبيقه على الشواغر الجديدة، لأنَّ التعميم كاشف للخطأ، وظاهرة شركات التوظيف مخالفة للنظام الأساسي ولقانون الخدمة المدنية، ويصبح كل عقد عن طريق الشركات "ماضيا وحاضرا ومستقبلا" باطلا، لكن "نكرر" ماذا عن الشركات والهيئات الحكومية التي لا تطبق قانون الخدمة المدنية، وتستعين بشركات للتوظيف، هل قانون الخدمة المدنية لا يسري عليها؟ وإذا كان كذلك، فهل هي خارجة عن مرجعية النظام الأساسي للدولة؟