عبيدلي العبيدلي
وعرف الذكاء الاصطناعي خلال العقد الأخير قفزات نوعية ملموسة وواسعة في مختلف مجالات الحياة، لعل أبرزها ما حققه في مجال "التعلم العميق"، الذي يعتبر، بعض العلماء، أبرز مظاهره، "تطوير شبكات عصبية صناعية تحاكي في طريقة عملها أسلوب الدماغ البشري، أي أنها قادرة على التجريب والتعلم وتطوير نفسها ذاتيا دون تدخل الإنسان".
وقد أثبتت هذه التقنية - التعلم العميق- حسب ما يذهب له أولئك العلماء "قدرتها على التعرف على الصور وفهم الكلام والترجمة من لغة إلى أخرى، وغير ذلك من القدرات التي أغرت الشركات الأمريكية في وادي السليكون، وتحديدا فيسبوك وغوغل، على الاستثمار وتكثيف الأبحاث فيها، متجاهلين تحذيرات من أن تطور الذكاء الاصطناعي قد يهدد البشرية".
ولذلك نقرأ لمؤسس فيسبوك ورئيسها التنفيذي مارك زوكربرغ، تكراره مقولة "إن الأجهزة ذات الذكاء الاصطناعي ستستطيع يوماً ما أن تتمتع بالحواس الإنسانية مثل الرؤية والشعور أكثر من البشر أنفسهم". وعلى نحو مماثل، يشاطره المدير العام لشركة غوغل سوندار بيشاي الرأي بأن "عصر الهواتف الذكية اقترب من نهايته ليُستبدل بالذكاء الاصطناعي الذي يتيح الوصول الفوري إلى المعلومات الضرورية".
هكذا نرى أن الذكاء الاصطناعي، لم يعد علما مجردا، يمارسه العلماء في غرف مغلقة، بل تحول إلى تطبيقات مباشرة، يستخدمها الإنسان في معظم أنشطته الحياتية. لكن الفرق بينها وبين التقنيات الأخرى، أنها، كما يقول عنها زوكربرغ، وبيشاي، "يمكن أن تحل مكانه، دون إمكانية رسم للحدود التي سيتوقف عندها ذلك الحلول".
مسألة في غاية الأهمية يتناولها الكاتب عبد الله حمدي، في مقالة له مقتضبة أوردها من بين "خمس معلومات أساسية عن الذكاء الاصطناعي"، هي العلاقة بين تطور أبحاث الذكاء الاصطناعي، و"البيانات والقدرة الحوسبية"، مشيرا إلى أنه "على الرغم من أن العلوم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لم تتطور بشكل جذري خلال العقد الأخير إلا أن المجال عاد للسطح بشكل قوي. ما الذي حدث في الآونة الأخيرة إذاً؟ الوفرة المهولة للبيانات (Data) والتطور الكبير في القدرة الحوسبية ورخصها ( (Computing Power تحديداً الحوسبة المتوازية (Parallel Computing) والموجودة في كروت الشاشة الخاصة بأجهزة الألعاب (GPUs). كل ذلك ساهم في قدرة الخوارزميات القديمة (من الثمانينات والتسعينات) على العمل بشكل ممتاز حالياً وتجاوز الطرق البرمجية المعروفة ((Hand-Crafted Features في كثير من المهام البشرية. أصبح من السهل الآن تدريب هذه النماذج على عمل مهام كانت تعتبر صعبة أو شبه مستحيلة على الآلة، مثل التعرف على خلايا السرطان أو القيادة الذاتية للسيارات".
وهناك الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي بتنا نستخدمها، دون أن نربط بين الخدمات التي ننعم بها والذكاء الاصطناعي الذي يسيرها.
نورد على سبيل المثال لا الحصر خدمة الترجمة التي يوفرها محرك البحث "غوغل"، والتي يمكن القول إن نسبة عالية من مستخدمي الإنترنت، لابد وأن استعانوا بها بشكل أو بآخر.
ما قامت به شركة غوغل هو إدخال عشرات الملايين من الوثائق والمستندات، بل وحتى الكتب كاملة. ثم قامت أيضًا بإدخال الترجمات اليدوية التي أنجزها مترجمون بشر. ثم غذت تلك الترجمات، وفق منظومة خوارزمية منطقية لمحرك آلي، قادر على محاكاة العقل البشري، عند قراءته لأي من تلك النصوص. ومن خلال المنطق الآلي، تمت مماثلة الترجمات، وتم تحويلها إلى أنماط يستعين بها المحرك عندما يقوم بالترجمة.
بطبيعة الحال ترتفع نسبة الصواب في النص المترجم، عندما يكون ذلك النص مقالة علمية، وتتراجع النسبة حين يكون المحتوى أدبيا. ولذلك، وحتى يومنا هذا، ما تزال الترجمات التي يقوم بها غوغل، بحاجة إلى مراجعة بشرية، وتنقيح من عمل الإنسان.
قضية أخرى في غاية الأهمية لابد من الإشارة لها هنا، وهي، بخلاف الانطباع السائد لدى الكثيرين ممن يستخدمون تطبيقات متقدمة تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، والذين يعتقدون أن ذلك العلم الذي طوره الإنسان، لا يعدو كونه مجموعة متراصة من أسطر التشفير التي تنقل الأوامر من لوحة المفاتيح إلى ذاكرة الحاسوب.
في واقع الأمر يستند الذكاء الاصطناعي في صلب تطويره للتطبيقات التي نستخدمها، إلى فلسفة عميقة. هذا ما ينبه له الكاتب محمد عبد الوهاب حين يقول "يعتقد الكثيرون أن الفلسفة هي العامل الرئيسي الذي يعتمد عليه الذكاء الاصطناعي في فهم وتحليل الأمور واتخاذ القرارات المناسبة بناء علي ذلك، العالم الأمريكي David Deutsch أقر بأن الفلسفة تحمل الحل للوصول إلى مرحلة من الذكاء الاصطناعي تحاكي تلك المتواجدة في العقل البشري أو ما يعرف بـAGI، الأمر الذي يرى البعض أنه بعيد عن الواقع في الوقت الحالي ولسنوات قادمة لأن العلم الحديث لم يتوصل لفهم كامل لطريقة عمل العقل البشري مع كل التطور التكنولوجي المتواجد حاليا، البعض الآخر يرفض فكرة التطور الكبير للذكاء الاصطناعي...."
ومجال آخر من مجالات تطبيقات الذكاء الاصطناعي يستخدم في قطاع التعليم، ويجري تجريبه اليوم في الدنمارك، وتحمل اسم "جست رايتر". تتولى المنظومة مقارنة الأبحاث التي يقدمها طالب مُعين مع ما سبق له أن قدمه هو نفسه، أو طالب آخر. ويكون في وسعها من خلال البحث على الإنترنت التوصل لمعرفة أصالة البحث من زيفه، من خلال المقارنة الدقيقة المعتمدة على خوارزميات معقدة.
بطبيعة الحال، ربما تخفق المقارنة اليوم كون البحث المطلوب مقارنته غير متوفر على الإنترنت، ومن ثم تصعب متطلبات توفر الدقة المطلوبة. لكن مع تنامي تخزين البيانات على الإنترنت، وزيادة الاعتماد على الحوسبة السحابية في التخزين والمعالجة، واتساع نطاق التشبيك بين المعاهد والجامعات ومراكز البحث العلمي، وازدياد سرعة تحليل البيانات المخزنة في ذاكرة الحاسوب، بفضل سرعة المعالجات المستخدمة. كل هذه العوالم سترفع من دقة صحة المقارنة، ومن ثم المساعدة في الوصول إلى التقويم الصائب للمستند المراد مُعالجته.
يبقى السؤال التقليدي الذي لا ينفك يلح على العربي الذي يتابع التطورات التي يشهدها ما يُمكن أن نطلق عليه "ثورة الذكاء الاصطناعي"، هو أين نحن العرب من كل هذه التطورات، وهل سنكتفي، كما دأبنا دومًا، على القبول بالوقوف في صفوف المستهلكين السذج، أم حان الأوان كي نلج هذه الصناعة المستقبلية ومن أوسع أبوابها؟
الجواب السليم لن تحمله لنا التمنيات، ولكن العمل الجاد الدؤوب، الحاضن لهدف مستقبلي واضح.