د. صالح الفهدي
إذا كان العملاء الخارجيون معروفون بأنهم البشر الذين يتعاملون مع أيَّةِ منظمة، فقليل من الناس يعرف "العملاء الداخليين internal customers" وهم مجهولون لأن الاعتناء الغالب في أيَّة منظمةٍ للأسف يتجه إلى العميل الخارجي الذي تعدُّه المؤسسة سبب بقائها، أمَّا العميل الداخلي وهو الموظَّف فقَّلما تعتني به المنظمات، أو قلَّما تساويه بالعميل الخارجي، وهو أساسُ الكيان المؤسسي.
وتأتي مقالتي هذه تركَّزُ على عوامل البناء أو الهدمِ في المنظمات (وزارات-هيئات-وحدات-شركات-مؤسسات، أو أي كان مسمَّاها)، حتى أُلفت نظر الرؤساء إن كانوا غافلين عنها، أو المرؤسين إن كانوا لا يعون توصيفها، ويحسبونها عائدةً إلى طبيعة العمل.
ولا يُفهم من مصطلحِ (الموظف) أنه صاحب المرتبة الأدنى وظيفياً، بل إن (الوزير) نفسه يعدُّ موظَّفاً، كما يعدُّ (القائدُ العسكري) جندياً، وعلى ذلك فإن ممارسات الهدمِ أو البناءِ تنطبقُ على الوزير أو العامل البسيط الأجر.
وإذا كان الموظف هو أساسُ كلَّ منظمةٍ (استخدمُ هنا مصطلح منظمة لاستيعابه كافة أُطر الهياكل الإدارية) فإنَّ من الجديرِ بمكان أن نوليه قدره من العنايةِ والاهتمام ليس من أجل ذاته الشخصية بل من أجلِ مصلحةِ المنظمة التي ينتسبُ لها، وبناءً على ذلك فإن على الرؤساء أن ينتبهوا لقراراتهم وسلوكاتهم التي إمَّا أن تؤدي إلى هدمِ الموظف أو بنائه.
وإذا كنَّا نتحدث عن "رؤساء" نعدُّهم رؤوس الأهرامات الإدارية في المؤسسة، وصانعي القرارات فإن انتقاء الرؤساء الأكفاء هو بداية الطريق الذي إمَّا أن يؤدي إلى بناءِ الموظف أو إلى هدمه، فاختيارُ رئيس لا يمتلك الكفاءة الإدارية، سيؤدي إلى هدم الموظف..! اختيار مثل هذا الرئيس يؤدي به إلى أن يملأ فراغ نقصِ قدراته بالاستبداد في المسؤولية، والتَّسلطِ في القرار، أو يؤدي به إلى تسليمِ مسؤولياته إلى البطانة المتزلِّفة التي تحيطُ به، فلا يعرفُ عن تدبيراتهم شيئاً، وهو في ذلك متعمِّدٌ فهم يقومونَ بدلاً منه بتصريفِ الأُمورِ أيَّاً كانَ ذلك التصريف..!
أمَّا إذا كانَ الهدفُ بناءُ الموظف فإن الانتقاء الحسن للرئيس الذي يتسنَّمُ سدَّة الرئاسة في المنظمة هو مبدأُ الأمر للتقدم، وترجمة الإرادة للتطوير، ومنطلقُ المشروع للتغيير، فالرئيس صاحبُ الكفاءةِ سيعرفُ قيمة الموظف المخلص، المثابر، وسيوليه حقَّ الاهتمامِ، ويعلمُ قيمة الموظف المتزلِّف، والمتقاعس، والمهمل، فيضعهم في حدودِ قدرهم.
فإذا كنتم أهلَ نظرٍ بعيد، ورؤيةٍ وطنية عاليةٍ، وسموَّ فكرٍ عظيم، فإنكم ستجدون شتى الوسائل لتبنوا الموظف الكفء، الأمين، المخلص، المبدع.
بناءكم لهذا الموظف بتمييزه عن المهملِ، المتقاعس، المتزلِّفِ، بالإحسانِ إليه، فقد أثابَ نفسه دون أن تثيبوه أنتم، وقدَّرَ نفسه لأنه عرفَ مكانتها، هذا الذي يستحقُّ البناءَ، والاعتناء.
إذا أردتم بناءَ الموظف القائد فمكِّنوه من المسؤوليات، وفوِّضوه بالصلاحيات، ثم بعد ذلك قيِّموه بالإنجازات، وحاسبوه على القرارات.
إذا أردتم بناءَ الموظف المبدع، فأفسحوا له مساحةً يبدعُ فيها، ولا تحاسبوه على الأخطاء التي تبدرُ من محاولاته، بل تعاطوا معها على أنها جهدٌ إنساني يستحقُّ التقدير والتشجيع.
إذا أردتم بناءَ الموظف المخلص الأمين فأوكلوا له المهام، والواجبات، وقيِّموهُ بمستوى إنجازه، وقيمةِ أدائه، ولا تجعلوه عرضةً لأهوائكم وأمزجتكم تقلِّبوه كما شاءت.
أمَّا إذا أردتم هدمَ موظفٍ فالأمر في أيديكم أيضاً ولكن لتكن هذه الحقيقة واضحةً لديكم: إنَّ هدمَ موظَّفٍ كفءٍ يمتلكُ قدرات عالية، ومهاراتٍ متميِّزة، وسماتٍ قيادية هو هدمٌ لمكتسباتِ وطن. وإن بناءهُ هو إعلاءٌ لشأن الوطن. وفي المقابل فإنَّ منحَ موظَّفٌ متزلِّفٌ، لا يمتلك حظَّاً من القدرات والكفاءات حجماً فوق حجمه هو ذنبٌ عظيمٌ في حقِّ الوطن، وجُرمٌ في حقِّ المجتمع فهذا وأمثاله هُم الثغرات التي تسلل منها الفسادُ إلى جسد المنظمات ..
إذا أردتم هدمَ الموظف المخلص الذي يحملُ همَّ تطوير أدائه، ويجاهدُ من أجل تحسينِ إنجازه، فقدِّموا الموظف المهمل عليه، أو رقُّوه مع الموظف المتقاعس، حتى يشعرَ بأنَّه لا قيمة لإخلاصه وأمانته، ولا اعتبار لجهدهِ ومثابرته.
إذا أردتم هدم الموظف المبدعَ فاسحبوا الثقةِ منه، حتى يشعرَ بأنهُ لا قيمةَ له، وأنَّ كلَّ ما يصدرُ منه من جهدٍ ليس محلَّ ثقةٍ منكم، اسحبوا منه الصلاحيات، والمسؤوليات، حتى لا يجد في يده شيئاً يعمله، فينظر إلى نفسه نظرةً يستحقرُ بها نفسه، ويزدري قَدْره، حتى يصل به الحال أن ينتحرَ وظيفياً لأنه لم يعد يصدِّقُ أن لديه القدرات والإمكانات المتميِّزة.
إذا أردتم هدم الموظف الكفءَ فاعملوا على إقصائه وتهميشه وجَعْلهِ هو والطاولةُ والكرسي في مقامٍ واحد، فما هو إلاَّ جسدٌ يريدُ –في رأيكم- أن يستلم في آخرِ الشهر المرتَّب ليأكل ويشربَ ويقضي ما عليه من فواتير، ويوفِّي التزامات المدارس، والعلاج، ومقتضيات المعيشة حتى ينقرضَ من الحياة..!
ولكم إن أردتم أن تهدموا الموظَّف الطموح أن تؤطِّروا طموحه بمساحةِ المكتبِ الذي يقضي نهاره فيه، وعليه أن لا يفكِّر في فضاءٍ من الطموحِ أوسع، وفي هذا يمكنكم أن تطبِّقوا عليه عقيدة الشعور بتفاهة الطموح، وسخف الأمنيات، حتى يضحكَ بملءِ فمه على طموحهِ الواسعِ، وأمنياتهِ المديدة، وحين تسمعون ضحكاتهِ المجلجلة، يمكنكم الاطمئنان بأنه قد وصلَ مرحلة الانفصام..!
إذا أردتم أن تهدموا الموظف الذي يمتلكُ القدرة والكفاءة التي تمكّنه من إدارة المنظمة فجمِّدوهُ في وظيفته، واطيلوا في ترقيته، ولا تفسحوا له المجال في الترقية لأعلى الهرم، وذلك بتجميدِ من هو في أعلاه، حتى يتولَّى الموتُ شأنهم وذلك الأمر الوحيد الذي لا تستطيعونَ إيقافه..!
إذا أردتم أن تهدموا الموظف القيادي فضعوا على رأسهِ مديراً متحجِّرَ الفكر، مُهَلْوِسَ الظنون، موسوس الخاطر، يقفُ على رأسهِ في كلِّ مهمة يؤدِّيها، ويسألهُ عن كل خطوةٍ يخطوها، وكل تلميحةٍ تظهرُ عليه، بهذا النوع من المديرين سيتحوَّل الموظف القيادي إلى مجرَّدَ تابعٍ متذمِّرٍ، إمَّا أن تروِّضهُ البيئة أو ينفد بجلدهِ منها، وحينها ستكونون قد ربحتم خروجَ موظف هو مشروع قائد، كما حققتم خسران الوطن لقائدٍ كان يمكنه أن يحدث أثراً في تاريخ وطنه..!
وختاماً أقولُ لكم أيها الرؤساءُ والقادة: إن أوطاناً هُدِّمت بوضع أردأ البشرِ، وأتفههم وأقلَّهم قدراً في مناصبَ قيادية، وعلى عكسِ ذلك فإن أوطاناً بُنيت بوضع أفضل الكفاءات، وأعظم العقول في مناصب عُليا حازمة القرار، والرئيس أو القائد أو المدير المخلص الأمين لوطنه هو الذي يهيئ الصفَّ الثاني لا الذي يتركُ فراغاً كبيراً إن خرج، ولتعلموا أنما مصيرُ الأوطان في أياديكم فإن تركتموها لأهوائكم خربت، وإن تركتموها لإيمانكم سعدت.. وفي هذا يصدرُ عليكم تقييم التاريخ، وتشهدُ عليه صحائفه.