موروث القيم وقيم الديمقراطية

علي بن مسعود المعشني

يمُوج العالم من حولنا، ومنذ بداية الخليقة، بالفرضيات والنظريات الموروثة من الأديان والتقاليد والأعراف والعلمية لاحقًا؛ للظفر بمنظومة حقوق وعدالة وحرية للبشر، ومنذ نشأة الدولة القُطرية الحديثة تزاحمتْ عُقول العُلماء والمنظِّرين والمفكِّرين والحكماء؛ لتعريف ماهية الدولة الصالحة للحياة، وتحقيق قيم العدالة والمشاركة، وحفظ الحقوق وجلب المنافع والخيرية للناس؛ فمنهم من صوَّر نموذجه بالمدينة الفاضلة، ومنهم من صور دولته بالفوضوية، وبينهما كانت نظريات الديمقراطية المعاصرة وتعدَّدت نُظم الحكم في مشارق الغرب ومغاربها.

أغلَب التجارب الناجحة في عالم اليوم -إن لم يَكُن جميعها- في ترجمة قيم الديمقراطية وبناء الدولة العميقة والتنمية الخلاقة، كانت النماذج التي بعثتْ مورُوثها القيمي وبنتْ عليه ومنه تجربتها الديمقراطية المعاصرة، فحققت ما يُشبه المعجزات.

أشهَر هذه النماذج، وأقربها للمثال والمقارنات، هما نموذجا اليابان وكوريا الجنوبية؛ حيث مَزَج النموذجان بين القيم الموروثة، وأضافا إليها مُقتضيات الحداثة والعصرنة، فحافظا على المظهر والجوهر معًا.

الحقيقة أنَّ النموذج الأكثر إبهارًا، والذي يستحق التأمل والتدبر والإعجاب معًا، رغم الغبن الذي وقع عليه لطمسه وتشويهه، هو النموذج الألماني في النهوض والصدارة، هذا النموذج الذي أدهش العالم بريادته وإبداعه وتفرُّده، واختزله المنتصرون لاحقًا في صورة النازي الشرير الذي أشبع العالم خرابًا ودمارًا!

فحِين قرَّر الألمان النهوضَ وسيادةَ العالم في بدايات القرن الماضي، قدَّموا الأخلاق والقيم على كل قوة مادية، واعتبروا القيم والأخلاق هي الحاضن والوقود لكل تطوُّر ونموٍّ ومشروع حيوي للأمة الألمانية الصاعدة؛ فقاموا بحملة تطهير حقيقية لبلادهم من كل الأدران والمثالب والطباع والسلوكات المشينة وغير السوية -كالدعارة والقمار والشذوذ- ثم أتت الخطوة التالية عبر الاستعانة بالعلم والبحوث العلمية، وكان من ثمرة ذلك تأسيس المعهد الألماني للدراسات النفسية، هذا المعهد الذي تخصص في دراسات تحليلية عميقة لعادات الشعوب وخصائصها وطباعها وموروثها وتاريخها؛ لمعرفة مَوَاطن الضَّعف والقوة لديها قبل مواجهتها ومحاربتها، ثم أتتْ خاتمة المخطط بتحقيق القوة العسكرية العقائدية والممزوجة بقيم التفرد والتفوق للعنصر الألماني، والكثير منا يعلم أو سَمِع عن المعجزات التي حققها عباقرة الحرب الألمان من اختراقات عميقة وانتصارات أسطورية على الخصوم، وفي أزمنة قياسية، بفعل تلك الأدوات النفسية العميقة التي تسلَّح بها الألمان، وبفعل خبراتهم التحليلية العميقة لكيفية التعامل مع خصومهم وإلحاق الهزائم بهم.

في كُوريا الجنوبية -وبعد أن وضعتْ الحرب الكورية أوزارها، وجلبت تقسيم الكوريتين وعشرات الملايين من القتلى والجرحى والمفقودين- تولى العسكر الحكم، وقرروا خطة نهوض لبلادهم تتضمن التخطيط لثلاثة أجيال؛ حيث أطلقوا على أنفسهم "جيل الفشل"، ثم جيل "أبناء جيل الفشل"، ثم جيل "النجاح والنهوض"، ومهدوا لجيل النهوض وهيَّأوا له كل أسباب النجاح؛ وأولها: سلة القيم التي يجب الحفاظ عليها والبناء عليها لمواجهة العالم بكوريا حديثة مُتفردة ومُتميزة، وأول تلك الخُطى كانت تنقيح الموروث بكامله وإعادة إنتاجه بما يُلبِّي التطلعات ويترجم الآمال، ويترجم واقع الدولة الكورية المتفردة.

وفي اليابان، تمَّ تحطيم قُدسية وألوهية الإمبراطور ليصبح بمرتبة حاكم للشعب، وتمت هيكلة العقل الجمعي الياباني ليتقبَّل الهزيمة، ويعيد النظر فيما حوله من ثقافات، ويتعاطى معها بواقعية وإيجابية منزوعة من النرجسية، وثقافة التفرد المنزوع من الواقع.

حينَمَا نسمَع عن انتحار وزير في اليابان أو كوريا الجنوبية اليوم، لمجرد تهمة فساد في وزارته، فإننا لابُد أن نُدرك ونعتَرِف بحجم تأثير القيم على الفرد وقيمة الرقابة الذاتية وقدرتها على صون المكاسب مقابل قوانين وهيئات رقابية قد يصوغها أو يرأسها أناسٌ فاسدون لا معنى للوطن لديهم، ولا مكانة للقيم في حياتهم.

وبالشكر تدوم النعم...،

------------------

قبل اللقاء: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا"