د. عبدالله باحجاج
إذا كان هُناك من لا يزال ينظرُ لأوضاع الدولة المالية، كتلك التي كانتْ سَائِدة في مُنتصف العام 2014 عندما نزلت الأسعار النفطية إلى ما دون العشرين دولارا، أو لديه قَلَق من عودتها، فلن يستوعِب البُعد الغَائي المُلِح لعنوان المقال "المواطن أولا.."، بل هُناك الكثيرُ من "المُستوزِرين" لن يُلامس هذا المقال حاسَّة سمعِهم -أي لن يَنفَذ إلى عقولهم- لأنَّ ذواتهم مُحصَّنة عن السمع، ليس لهذا المقال، بل لكلِّ المقالات التي تَتَعاطى مع الشأن العام، لن نُبَالغ في هذا الإجماع، لمعرفتنا بالخلفيات وأسبابها، ولا نُعمِّم أبدا، لكنَّ القِلة مُؤثرة، لو أنها فتحت سمعها، لتغيرت مواقفها، ولصوَّبت الكثير من المسارات الراهنة.
لكِنَّنا ومع ذلك، سنفترضُ أنَّ كلَّ الحواس مفتوحة لسماع الصوت الاجتماعي، وإذا لم يكن كذلك، فكيفينا سَمع كل من يكون شغله الشاغل الأمن الاجتماعي، وثقتنا فيه كبيرة في انحيازه لرؤيتنا التي مصدرها الواقع، وقلقنا على مآلاته؛ بحيث تدفع بنا إلى اعتبار أنَّ المرحلة الآن ينبغي أنْ تكون مرحلة المواطن أولًا كأولوية وطنية؛ وذلك بعد أن اتخذت مجموعة سياسات مالية وضريبية ورسوم ورفع مجانية الخدمات والدعم، وكلها تشكل الآن ضُغوطًا كبيرة على معيشة المواطن.
المُواطن أولًا، هو شِعَار حتمي يأتي بعد أن حدَّدت بلادُنا إستراتيجيتها المستقبلية لمواجهة التحديات التي عَرفتها البلاد سابقا، وتِلكم التي تتوقَّعها لاحقا، وهو حتميٌّ للمراجعة والتقويم بعدما أصبحتْ البشارات النفطية والغازية تَتَوالى عبر بعض وسائل الإعلام، وكذلك نجاح السياسة المالية في تسجيل فائض في الموازنة خلال الخمسة أشهر الأولى من العام 2019، بلغ 90 مليون ريال، وهو حتميٌّ كَون المجتمع يتحمَّل منذ خَمْس سنوات ضربات قوية نتيجة تلكم السياسات والتحولات الاقتصادية.
رُؤيتنا الآن أنَّنا في مرحلة مواتية، تستوجب مراعاة الظروف الاقتصادية التي يمرُّ بها المجتمع، وحل المشكلات التي تُعمِّق ظروفه الصعبة، وتؤثِّر على توازناته المادية والسيكولوجية؛ وذلك حتى لا تكون السياسات المالية على حساب المجتمع -أي يدفع ثمنها- ويُمكن أن تُؤثر سلبًا على حياته؛ لذلك ينبغِي أن يحظَى الشقُّ الاجتماعيُّ في الميزانية والخطط بالأولوية في التطبيق، وبالمراجعة المستمرة لها في ضوء نتائجها.
فمَا فائدة اقتصاد قوي لدولة ما، ومجتمعها ضعيف، ومخترق من الداخل والخارج، ويسبِّب لها حالة عدم استقرار وصداعا سياسيا دائما؟! وقد أدركت نهضتُنا المباركة هذه القضية مبكرا، فعملتْ على صناعة مجتمع قوي ومتناغم ومنسجم، يُشكِّل قوتها الناعمة، وهي بمثابة خط دفاعها الأول الذي يُمكن الرهان عليه في أي وقت، أكثر من قوَّتها الصلبة. ومن هُنا، ينبغي أنْ تظل هذه المسألة هاجسنا الأول؛ وبالتالي الحتمية الوطنية تقتضي الانتقال الآن إلى الاهتمام بالمواطن.
ولماذا الآن؟ لعِدَّة أسباب موضوعية؛ لعل أبرزها أنَّ بلادَنا قد تجاوزت الأزمة النفطية، ولم تعد إلا في أذهان البعض فقط، وكذلك، فإنَّ الرؤية المستقبلية "عُمان 2040"، قد أصبحت واضحة ومحددة ببرامج تنفيذية جاهزة، وكذلك، وهو الأهم، أنَّ الخمس سنوات الماضية قد تجاوزتْ الكثير من الخطوط الاجتماعية الحمراء، والتي ينبغي إعادة الاعتبار لها بعد أن تجاوزنا الأزمة النفطية، واستمرارها يجعل منها حالة دائمة تنتج آثارا عكسية تمس جوهر قواتنا الناعمة.
وهذا لن يتأتَّى لنا الآن إلا من خلال تبنِّي مساريْن متوازنين، تفرضهما مرحلتنا الوطنية الآن، والآنية الزمنية هي الحدث الذي يَتَقاطع معه نَجاح أو تعطُل مشروعنا النهضوي الجديد؛ وهما: الإسراع في تعزيز البناء المؤسساتي (هيكلةً وأطرًا وكوادر)، وجعله خاضعا لمبدأ المساءلة والشفافية، ويكون مُؤهَّلا لاستثمار موارد الدولة لضمان الاستدامة كما جاء في الرؤية المستقبلية. أما المسار الثاني، فيجعل هذه المؤسسات تُركز في نطاق مسيرتها المستقبلية الجديدة على تنفيذ الأجندة التنموية والبرامج الاجتماعية التي تهمُّ معيشة المواطن؛ لأنَّ المشهد الاجتماعي ينحُو نَحو التراجع المثير وليس التقدم المحسوب.
ولو تَركناه يسير نحو التراجع، فإلى متى سيتحمَّل المواطن الضغوط التي تطاله من مختلف النواحي؟! وهذا التساؤل تشرعنه اللحظة الزمنية الراهنة، ومن لم يسلم بواقع هذه الضغوط على المواطن؛ فمن المؤكد أنه لا يعيش حالاته، ولم يتعب نفسه لمعرفتها ولو من مصادره الخاصة، فهو يعتبرها قضايا ثانوية وليست أساسية. ونرجِّح الخيار الأخير، بدليل أنَّ حاسية سمعهم لا تنفتح لمثل هذه القضايا -ولدينا خلفيات بها مؤكدة.
وحتى نقنع حاسة السمع المفتوحة الآن، فعلينا الاستدلال ببعض المُعطيات والإحصائيات الرسمية المنشورة عن الواقع الاجتماعي، حتى يُمكننا الوقوف على ماهيات وحجم الضغوط المترتبة على السياسات المالية على المجتمع، وتأتي في مُقدمتها قضية الباحثين عن عمل، التي تختلف التقديرات بشأن حجمها، ومهما كانت 50 أو 100 ألف باحث، فإن الأخطر فيها تراكمها السنوي في ضوء المخرجات السنوية للجامعات والكليات.
وكذلك قضيَّة المجتمع الشاب، وقد بَلَغ العدد الإجمالي للشباب في الفئة العمرية من (18-29) عاما فقط، منتصف العام 2017، نحو 1.2 مليون شاب وشابة، شكَّل الشباب العمانيون ما نسبته 46.7%، وهذه الخاصية ترجح العمل الجاد والمتواصل والذكي لاستيعاب واحتواء الشباب ضمن أجندة التنمية العاجلة، خاصة في ضوء مُؤشرات قلقة عن نسبة الشباب في الجرائم التي ترتكب حديثا؛ فمن بَيْن 20.8 ألف جانٍ، شكل الشباب (من 18 إلى 29 سنة) ما نسبته 39%، وشكَّلت الجرائم الواقعة على الأفراد النسبة الأكبر بنحو 28% بين جرائم الجناة الشباب العُمانيين، تليها الجرائم الواقعة على الأموال بنسبة 27%.
وكذلك قضية الرواتب المتدنية التي أصبح الكل يعلم حجمها، ووصلت بالكثير إلى العجز عن دفع مصروف يومي لأبنائه، أو عدم إعطائهم المصروف المناسب...إلخ. وهنا، ينبغي تصوير هذا المشهد في ضوء حالة المتقاعدين، وهم بالآلاف، ووجود ابن أو اثنين داخل أسرة في قائمة الباحثين عن عمل.
وكذلك، يُمكِن إضافة عدد المسنين الذين يقتربون من 150 ألفا، مشكلين ما نسبته 6% من سكان السلطنة من العُمانيين، وعدد المعاقين البالغ 340861 معاقا -وفق إحصائية آخر ثلاث سنوات- وكذلك الأرامل والمطلقات، وكلها عوامل تُلقِي بظلالها وتحدياتها على أولوية الأجندة الاجتماعية العاجلة، والتي تُعطِي لمقالنا "المواطن أولًا كأولوية زمنية راهنة"، مشروعية طرحه الآن.
وهى أولوية لا تؤجَّل، وإن تمَّ تأجيلها، فستزيد من حِدَّة الفوارق الاقتصادية بين طبقات المجتمع بسرعة زمنية فائقة، ورُبَّما غير مُتوقعة، وهذا الحد سيكون صارخا وفق المعطيات المشار إليها سابقا، خاصة وبلادنا في مرحلة إقليمية وعالمية تستهدفها بذاتها.. لذلك؛ لا بد من المسارعة في تنفيذ البرامج والأجندة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه وقف القرارات غير المدروسة، وإلا فإننا سنرى تبعاتها اجتماعيًّا.