د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *
* كاتب قطري
المرأة ألطف الخلائق، هذا الإنسان الجميل الذي يفيض عاطفة ورقيًّا، ويملأ المحضن التربوي مودة وسكينة وأنسًا، هذا المخلوق الرائع الذي يدين التحضر البشري له، هي أم الحضارة، وهي من تُرضع الثقافة واللغة والهوية والحب والرحمة والتسامح والمفاهيم كلها، ليتحول هذا الكائن الوليد إلى إنسان اجتماعي متحضر.
ومع أنَّ الإنسان مدين بوجوده للأبوين معاً، إلا أن رسولنا -عليه الصلاة والسلام- خصها بالفضل الأعظم، حين كرر: أمك، أمك، أمك، ثم أبوك.
الأم، نبع الحنان، ومصدر السعادة، وأصل الحب في هذه الحياة، ورمز التضحية والعطاء، لذلك حظيت بمكانة رفيعة في كافة الأديان السماوية والوضعية.
المرأة الخليجية، اليوم، شريكة كفوءة في مشاريع التنمية، تقلدت مناصب قيادية، وأصبحت تمارس كافة حقوق المواطنة كالمواطن، إلا حقًّا واحداً، أبت التشريعات الخليجية أن تمنحها للمواطنة "حق منح جنسيتها لأبنائها".
ومع أنَّ دساتيرنا نصَّت على حقوق المواطنة المتساوية للجنسين، ودولنا صادقت على المواثيق الحقوقية الدولية وبالأخص: مكافحة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، والتشريعات الخليجية تطوَّرت لتواكب التحولات الاجتماعية التي جعلت المرأة شريكاً رئيسيًّا في نهضة الوطن، إلا أنَّ تشريعات الجنسية ما زالت محصنة من التغيير أمام منح المواطنة الحق كالمواطن!
ما تفسير ذلك؟!
أغلب التفسيرات ترَى أنَّ الموروث الماضوي الاجتماعي القبلي (أعلوية الرجل) لا يزال حاكماً للحياة الخليجية وتشريعاتها، رغم كافة مظاهر التحديث الخليجي، هذا الموروث الحاكم جعل حق الجنسية حقًّا (سياديًّا) للرجل وحده! ورغم وجاهة التفسير وقوة حجيته، إلا أنَّ دراسة متميزة أعدتها الناشطتان القطريتان: آمنة المري ومريم الهاجري، بعنوان "هل تعاني المرأة القطرية من مشاكل حقوقية؟"، نُشِرت على موقع "نُون العربية" ذهبت إلى تفسير آخر، حمَّلت فيه "المؤسسات الرسمية" المسؤولية الرئيسية في ترسيخ التمييز ضد المرأة، وذكرت أمثلة أخرى: تجديد الجواز بموافقة ولي الأمر، ومنح أراضي السكن للمواطن دون المواطنة، وتهميش المشاركة السياسية للمرأة، وانتهت الدراسة إلى أن ترديد القول بأن المشكلة مجتمعية بالدرجة الأولى حُجة باطلة، فالمؤسسات الرسمية هي من تساعد على بقاء الوضع الحالي.
أتصوَّر أن الشكوى أو اللوم ليس حلًّا، والجهات الرسمية هي في النهاية جزءٌ من النسيج المجتمعي المحكوم بالموروث، والأجدى البحث عن مخارج أخرى وابتكار مقولات يتغير معها الوعي المجتمعي العام، الذي يسهم بدوره في إيجاد حل.
حق المواطنة في منح جنسيتها لأولادها قضية عادلة ومشروعة، لكني أودُّ مناقشة القضية من منظور آخر، أراه أكثر أهمية وخطورة، أريد أن أرتقي بالنقاش من منظوره الحقوقي والإنساني إلى المنظور السياسي والاجتماعي والأمني، في تصوري أن القضية لها بُعد إستراتيجي أعمق، يتعلَّق بمعالجة الخلل السكاني المتزايد، والذي جعل الخليجيين أقليات في أوطانهم، وسط بحر لُجِّي من بشر يتدفقون من دول الفائض البشري يبتغون رزقاً وأمناً، وأصبح الخليج أشبه بمعسكرات عمل، الخليج اليوم أمام استحقاقات وتحديات عديدة، وترك الأمور لتفاعلات الزمن يزيدها تعقيداً.
قضايا: تعزيز المواطنة المتساوية، وتقوية الجبهة الداخلية، وتصحيح الخلل السكاني، قضايا مترابطة، تُشكل أهم مقومات "الأمن الخليجي"، وكافة السياسات ينبغي أن تكون في خدمة هذه القضية المصيرية.
منظوري لقضية حق الخليجية في منح جنسيتها لأبنائها -سواء لأب خليجي أو غيره- يقوم على بعدين:
- الأول: دول مجلس التعاون تعيش وضعاً سكانيًّا واقتصاديًّا غير طبيعي، وغير متوازن؛ أغلبية ذكوريَّة هائلة، وأقلية مواطنة، ومورد ريعي أحادي.
- الثاني: تعاظم المخاطر المحيطة بالخليج، وتزايد مهددات الأمن الوطني والخليجي.
وأخيراً.. إنَّ من أبرز وسائل تحصين الداخل الخليجي، وتعزيز الهُوية الوطنية، وتصحيح التركيبة السكانية: تفعيل مفهوم المواطنة المتساوية بين الجنسين، وإلغاء التمييز بين الأصلي والمتجنِّس في الامتيازات المادية، وتعديل النص المتعلق بتوارث التجنيس ليصبح ابن المتجنس أصليًّا، وتجنيس أبناء الخليجية المتزوجة من غير مواطن، وتجنيس كل المستحقين من المولودين في الأرض الخليجية، وتجنيس الكفاءات الوافدة، وتشجيع التزاوج الخليجي، وتفعيل وسائل تكثير النسل الخليجي.