عودة إلى أزمة الأمة وسبل الخروج منها

 

عبيدلي العبيدلي

 

تلقيت مجموعة من ردود الفعل حول ما تناولته في مقالة "أزمة الأمة وسبل الخروج منها" البعض من تلك الردود وصف ما جاء فيها أنّه "مغرق في تشاؤمه، وأنّه يوصد الأبواب في وجه من تساوره نفسه حتى مجرد التفكير في سبيل يمكن إخراج العرب من تلك الأزمة". قائمة طويلة من الردود، ليس هناك ما يدعو لإرهاق القارئ بما ورد فيها.

توقفت مطولا عند أحد الردود، الذي يصف صاحبه نفسه بانتمائه لما يُعرف باسم "المدرسة الجدلية"، والتي وضع أسسها الحديثة الفيلسوف الألماني جورج فريدريش هيغل، الذي زاوجت فلسفته بشكل مبدع بين الفلسفة والسياسة، ثم استخدمها كارل ماركس في تفسير موضوعاته الاقتصادية، ومن أبرزها ما جاء في موسوعته الاقتصادية الضخمة "رأس المال".

وجدت نفسي أشاطر ما جاء في ذلك التعليق حول المقالة، "أنّ أمام أية أمة تواجه أزمة طريقين لا ثالث لهما للخروج من أية أزمة. الأول منهما الهروب من مواجهة الأزمة، وتحاشي الاعتراف بها، من خلال الاستنجاد بالماضي، والغرق في مياه بركة، بغض النظر عن عمق أو ضحالة تلك المياه، وبعيدا عن كل ما يمكن أن يحمله ذلك الماضي من حقب ازدهار. أمّا الخيار الثاني، فالمواجهة الصريحة الممعنة في شفافيتها التي تأخذ بيد ذلك المجتمع، ومساعدته على التقدم نحو الأمام".

واكتشفت أن هذين المسارين قد أشار لهما الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران، في كراسة صغيرة صدرت له في السبعينيات من القرن العشرين، وقامت دار الساقي مؤخرا بترجمتها (بديعة بوليلة) إلى اللغة العربية. وحرص الكاتب على وضع مقدمة خاصة للطبعة العربية جاء فيها، رغم اقتضابها، الكثير مما يشير إلى أننا كعرب نمر بأزمة.

تقول تلك المقدمة، "كثيرا ما يستخدم مصطلح الأزمة كمكوّن أو حتى كتفسير لكنه لم يخضع للمساءلة. يحمل مفهوم الأزمة داخله اختلال التوازن وغياب اليقين. يمكن أن يتعلّق غياب اليقين بسبب الأزمة، لكنّه متعلق دائما بمستقبلها. هل سوف تمتص؟ هل ستتفاقم؟ هل ستسبب تراجعا أو تقدما... أو الإثنين معا؟ أو عودة إلى الوضع القائم. (ثم يستطرد موران مشخصا فهمه للأزمة) هل هي مجرد فوضى أو أزمة، مهما كانت أزمة أعصاب أو أزمة عالمية؟ هل لها ملامح خاصة؟ (ثم يمضي مشيرا أنّه حاول أن يثبت) إضافة إلى اختلال التوازن، وغياب اليقين اللذين تحملهما الأزمة، تتمظهر في الإخفاق في ضبط نظام الكبح، أو كبت الانحرافات (ارتجاع سلبي) للحفاظ على الاستقرار، ومن هنا تتطور الانحرافات التي لا تعود مكبوتة، وتصبح اتجاهات فعالة. والأخيرة، إذا ما تطورت، تهدد بعمق أكثر النظام المتأزم... (ويضيف) من اللافت أنّه عندما تتفاقم الأزمة، وتتواصل من أزمة إلى أزمة، فإنّ انحرافات الأزمة الأولى تصبح القاعدة".

المفارقة في فهم كلمة أزمة يشير لها موران، في مقابلة أجراها معه الكاتب فرانسوا ليفونيه، في 16 يناير 2016، وضمها الكراس تحت مسمى "توطئة". يقول موران، "لطالما صدمتني هذه المفارقة. عند اليونان توافق كلمة أزمة.. اللحظة التي تُمكّن من تشخيص المرض، أي اللحظة التي تكون فيها أعراض مرض معين واضحة جدا فتتيح للأطباء القول إنّها الحصبة أو الإنفلونزا، في حين أنّ كلمة (أزمة) كما نفهمها اليوم، تعني العكس تماما: إنها تترجم صعوبة التشخيص. في المجمل تأتي الأزمة هنا بغياب اليقين.."

والكراس على صغر حجمه، ومحدودية عدد صفحاته، لكن غني في مادته التي تنجح في إثارة مجموعة من التساؤلات أولا، مصحوبة بعدد من الاستنتاجات المبنية على محاولة الرد على تلك التساؤلات، التي بوسعهما (الإثنين معا) أن تعين القارئ العربي على تلمس معالم الأزمة، وأؤكد هنا على أننا كعرب نمر بأزمة خانقة، لن نخرج منها من خلال تجاهلها أو الهروب منها من خلال العودة "للتشدق" بأمجاد سابقة، ولا الهروب نحو الأمام بأحلام ليست واقعية، ولا حتى بالاستعانة بقوى خارجية، مهما ادعت تلك الأطراف برغبتها "الصادقة"، في مساعدة العرب على الخروج من أزمتهم.

قضيّة مهمة أخرى يشير لها موران، في سياق تناوله لمستقبل الأزمة حين يقول "ليست الأزمة بالضرورة تطورية، إذ يمكن أن تستوعب في رجوع إلى الوضع القائم، لكن للأزمة احتمال قابلية التطور، فهي تحمل عند نشأتها خصائص التطور. ولفهم هذا، يجب التخلص من فكرة أنّ التطور عملية متدفقة متواصلة. فكل تطور ينشأ دائما من أحداث أو حوادث، ومن اضطرابات، تصبح بدورها اتجاها يدخل تعارضا ضمن النظام، ويجر اختلال تنظيم أو إعادة تنظيم متفاوتة الدراماتيكية والعمق. إذا يمكن اعتبار التنظيم سلسلة من احتلال التنظيم ومن التنظيم الحرج".

تزخر كراسة مور على صغرها بمجموعة من الدروس التي بوسعها، متى ما قرأت تلك الكراسة، بشيء من الموضوعية والتجرد، أن تفيد قارئها العربي في فهم الأزمة التي تمر بها الأمة العربية، والتي عبّرت عن نفسها، كما جاء وصفها في أكثر من مكان في كراسة موران عند حديثه النظري عن "مفهوم الأزمة".

هذه الدروس كي تكون مجدية، عليها تحاشي الانطلاق من مدخل مغرق في تشاؤمه، أو أسير نظرة عدائية للآخر، بل وعلى العكس من ذلك، ينبغي لها أن تتوقف عند ما يقوله موران من أنّ الأزمة تحمل في أحشائها أجنة التطوّر، وتحتضن في رحمها عناصر التقدم. لكن تلك العوامل، وهذه العناصر، ترتد في اتجاه معاكس، حينما تفتقد إلى تلك الأيادي التي بوسعها أن تتلقفها، والعقول القادرة على قراءتها.

وعلى المواطن العربي، وهو يتابع مسار أزمته أن ينصت لدعوة موران في مقدمته للطبعة العربية حين يناشده بنبرة تفاؤلية صادقة مستقاة من خلفية نظرية متماسكة، وإيمان عميق بقدرة الإنسان على التغيير، بل والتغيير نحو الأحسن، وهو يقول: "أتمنى أن تكون الإشارات التي يحملها هذا الكتاب مفيدةً للقارئ العربي الذي يواجه أزمات عدّة ومتراكبة. لا يمكن لهذه الإشارات أن تشكّل تشخيصاً أو خطّ سلوك، لكنها تُحرّض العقل على أن يكون حاضر الانتباه دائماً إلى الانحرافات التي تتطوّر، والتحولات الرجعية أو التقدمية، والظواهر النفسية التي تحفّزها الأزمة للبحث عن حلول".