رؤية الهلال ووجه الحضارة

منى سالم جعبوب

تردَّدتُ كثيرا في كتابه هذا المقال، فلم أكن أرغب بالعودة لكتابة المقال بموضوع خلاف في زمن وهن وضعف الأمه الإسلامية، لكنني لم أجد منه من بُد.

لقد وصلت أمتنا في حال كثير من عامتها لحال يرثى له؛ فهم متدينون متعصبون في موضع الخلاف، ومسلمون مفرطون في موضع العبادة، فلم تعِ نفوسهم أنَّ في الدين ثوابت لا يقبل فيها الاجتهاد، وأمورا فيها سعة يُقبل فيها الاجتهاد والاختلاف لحكمة اقتضاها رب الناس.

رُؤية الهلال التي يتجلَّى فيها شقاق العالم الاسلامي بل وغياب المعرفة الدينية الحقيقية لدى شعوب هذا العالم الذي تراجع عن الحضارة، وغرق في وحل الجهل والتخلف، فصار حاله لما صار إليه، بعد أن كان يشع للدُّنى علما وثقافة وفكرا متسامحا ورأيا حكيما. لكنه في عصرنا الحالي للأسف مختلف ومنغلق، وبعض العقول أُريد لها التحجر بفعل الفاعلين.

وعندما وجدتُ الكل يتحدث عن صيام يوم عرفة عند اختلاف الرؤية بين مكة المكرمة وغيرها من بلاد المسلمين، بحثتُ في الموضوع هل للاختلاف هذا أصل قديم؟ فيوم عرفة ليس كرمضان تشاهد الهلال اليوم وتصوم غدا، بل هناك تسعة أيام فاصلة تكفي لأن يبعث الخلفاء والملوك للأمصار الرسل، بحيث يصبح التاريخ موحدا ويوم عرفة واحدا في سائر بلاد المسلمين، خاصة وأن العالم الإسلامي آنذاك كان موحدا بنظام سياسي واحد، فلماذا لم يفعلوا؟

إنهم يدَّعون الدفاع عن دين الإسلام، لكنهم بأخلاق أبي جهل وبطش فرعون، هؤلاء بعض مسلمي هذا العصر، يتحرون الهلال وهم أشبه ما يكونون بالقمر في حال المحاق جسم قمر ولكن ليس له أثر.

كل هذا الضجيج، وكل هذا الاختلاف، وكل هذا الجدل، يحدث لأن العقول بها جهل أبي جهل، نعم أنَّ أبا جهل قوي شجاع وقد كان حكيم الجاهلية، إلا أن له عقلا لا يستطيع به إدارك الإسلام، فالإسلام يحتاج لعقول تستطيع التفكير بنفس عميق وأفق متسع، وكثير من المسلمين اليوم ينتمون لعقلية أبي جهل. لذلك فنحن لا نعجب من كون العلم ليس هو الفيصل والحكم!!

فالتفكير المستنير لا يأتي من شعوب متخلفة، وأهل العلم مهما بلغ بهم الاختلاف لا بد أن يلتقوا على الحقيقة البينة في نهاية المطاف، فلا يمكن أن يكون بينهم أبو جهل الذي يسميه أهل الجاهلية أبا الحكم.

لذلك تجد الشعراوي، وابن عثيمين، والقرضاوي ، وابن باز، وقبلهم  الإمام الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل والإمام مالك، كلهم يرون أن تغير المكان مُعتبر عندهم في إصدار الفتوى أو إبداء الرأي، لذلك تجد هذه الآراء فيما يتعلق برؤية الهلال.

 

رأي ابن باز:

وُجِّه للشيخ ابن باز سؤال من أحد الأخوة من السودان وذلك في 13/12/1383هـ، وألح عليه وقال إن السودان تأخرت عن رؤية الهلال، فهل لو شُوهِد الهلال كبيرًا بحيث يقدر أنه اليوم الثاني من الشهر، ففي هذه الحالة يتبع رؤية هلال مكة؟ فكان جواب الشيخ: "أما المطالع فلا شك في اختلافها في نفسها، أما اعتبارها من حيث الحكم فهو محل اختلاف بين العلماء، والذي يظهر لي أن اختلافها لا يؤثر، وأن الواجب هو العمل برؤية الهلال صوماً وإفطاراً وتضحية، متى ثبتت رؤيته ثبوتاً شرعياً في أي بلد ما؛ لعموم الأحاديث كما تقدم، وهو قول جمع كثير من أهل العلم... وهذه مسألة عظيمة وقد ورد عليَّ فيها أسئلة من بعض البلاد المجاورة، وتذاكرت فيها مع جماعة من العلماء، وإلى حين التاريخ لم يطمئن القلب إلى الحكم فيها، وأسأل الله أن يمُن علينا وعليكم بالتوفيق لمعرفة الحق واتباعه، لا سيما في مواضع الاختلاف والاشتباه".

إذن، ابن باز لم يطمئن قلبه لأن يُصدِر حكما خاصًّا في المسألة مُخالفا لجمهور العلماء، في حين أن من ورثوا فكر أبي جهل اطمأنت قلوبهم سريعا لما يخالف جمهور العلماء!!

إننا نختلف مع ابن باز فكرا، ولكن يبقى ابن باز عالِم ينطلق من العلم لا من عقلية أبي جهل.

 

رأي ابن عثيمين:

في كتاب مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، المجلد العشرين، الصفحة 47، نجد ما يلي: "سُئِل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عما إذا اختلف يوم عرفة نتيجة لاختلاف المناطق المختلفة في مطالع الهلال؛ فهل نصوم مع رؤية البلد التي نحن فيها أم نصوم تبع رؤية الحرمين؟ فأجاب فضيلته بقوله: هذا يُبنى على اختلاف أهل العلم: هل الهلال واحد في الدنيا كلها، أم يختلف باختلاف المطالع؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المطالع، فمثلا إذا كان الهلال قد رؤي بمكة، وكان هذا اليوم هو اليوم التاسع، ورؤي في بلد آخر قبل مكة بيوم وكان يوم عرفة عندهم اليوم العاشر، فإنه لا يجوز لهم أن يصُوموا هذا اليوم لأنه يوم عيد، وكذلك لو قُدِّر أنه تأخرت الرؤية عن مكة وكان اليوم التاسع في مكة هو الثامن عندهم، فإنهم يصومون يوم التاسع عندهم الموافق ليوم العاشر في مكة، هذا هو القول الراجح".

 

رأي القرضاوي

جاءَ ردُّ الشيخ القرضاوي على سؤال أحد مسلمي أمريكا: "إذا ثبت الهلال في بلد ما هل يلزم البلاد الأخرى؟ أو أن لكل بلد رؤيته الخاصة؟ والذي أحب أن أنبه عليه أننا إذا كنا لم نصل إلى وحدة المسلمين في العالم حول هذه الشعائر، فالواجب أن نحرص على وحدة المسلمين في كل بلد؛ بحيث يصومون معا ويفطرون معا، بمعنى أن يتبعوا سلطتهم الشرعية".

لكن هل هذا يعني أن علماء المسلمين مُتفقون على اعتبار المطالع والأهلة واصلا لا خلافا فقهيا طبعا، لأننا أمام دين حي، ولسنا أمام مادة جامدة، فقد اختلفت آراء فقهاء المسلمين فيما إذا كان اختلاف مطالع القمر مُؤثرًا في ثبوت ظهوره؛ وبالتالي مُؤثرًا في الأحكام المتعلقة بالأهلَّة: كالصوم والإفطار والحج والأضحية، أو غير مُؤثر فلا عبرة باختلاف المطالع. بمعنى أنَّه إذا ثبتت رؤية الهلال في أي بلد مسلم ثبتت في حق جميع المسلمين على اختلاف أقطارهم على ظهر أرض الله متى بلغهم ثبوتها بطريق صحيح، أو أن اختلاف المطلع أمر معتبر فيلتزم أهل كل بلد بمطلعه.

الرأي الأول أنه لا عبرة باختلاف المطالع؛ فمتى ثبتت رؤية الهلال في بلد بالمشرق مثلًا لزم ذلك سائرَ البلاد شرقًا وغربًا.

أما الرأي الثاني، فلابد من اعتبار اختلاف المطالع لكل بلد، وظل الأمر قاصرا على رأيين حتى عام 1966 ميلاديا، عندما جاء علماء مصر -ممثلين بمجمع البحوث الإسلامية- برأي ثالث، وهو أنه لا عبرة باختلاف المطالع، وإن تباعدتْ الأقاليم، متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية وإن قلَّ، ويكون اختلاف المطالع معتبرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة.

وعليه، يمكن لمؤسسات الإفتاء الشرعي في أي بلد الأخذ بأحد الآراء الثلاثة إلا إذا رجح ولي الأمر رأيا يخالف رأي مؤسسة الافتاء، فحينها تكون طاعة ولي الأمر مقدمة على كل شيء.