الفردانيون والمدنية

منى جعبوب

المجتمعات البشرية تتطور دائما؛ فالتطوُّر هو من أهم الخصائص التي تميز الكائن البشري عن غيره من المخلوقات. والمدنية أهم السمات المميزة لهذا الكائن البشري، إلا أنها لا تتحقق له إلا بالاجتماع؛ فلا تقوم مدنية وحضارة على أفراد، بل على الجماعة، لذا فالتجمع هو أساس وركيزة الإنسانية وسبيلها نحو الرقي وتحقيق الغاية. وأي مجتمع في أي بقعة من أصقاع الأرض أدرك ووعى ذلك الأمر بأن لا بغير الاجتماع الرفعة، ثم أردها لنفسه فلا يمكن له غير أن يُشجع التجمع والجماعات ويغذيها بما يسمو بها ويعلو وينال الحضارة ويحقق الإنتاج.

أما الفردانية، فلا تنتج إلا بطشا وجهلا وتخلفا. والفردانيون عندما يريدون صناعة اجتماع البشر على شاكلة اجتماع الدواب، إنما يعجلون هلاك الأمة وهلاك البلاد وزوال الحضارة وإن كثرت أدوات الحضارة وقشورها إلا أن هلاكها وزوالها حتما واقع، ولا سمو لهم ولا رفعة في مجتمع الفردانية. ولأنَّ البشر ليسوا كالدواب فحتما سيقع الصدام بين الفردانيين والمجتمعات التي أرادوا لها حياة البهائم، لأنهم بإهمال قيام الجماعات وتمايزها، إنما يقطعون سُبل الصناعة والأعمال كما أنهم يقصون أدوات تعيينهم على استمرارية البقاء.

وحتى في أكثر المجتمعات بدائية وتخلفا من حيث مفهوم الحضارة الصناعية أي في تلك المجتمعات المنعزلة في الأدغال والجزر النائية، تجد في المجتمع جماعات متمايزة عن الأخرى؛ فالمجتمع ليس كتلة واحدة بل مجموعة من الكتل؛ وبذلك حقق البقاء في ظروف تستحيل فيها الحياة.

لذا؛ فالفكر الذي ينادي بكتلة واحدة للمجتمع ما هو إلا ناتج عن مجتمع الفردانيين الذي ما هو إلا مجتمع الهلاك وكذلك المنادون بحرية الفرد من قيود الجماعة، إنما هم فردانيون من مجتمع الهلاك.

والأصل في المجتمعات هو اختلاف الجماعات مع قوتها منفردة وانسجامها وتناغمها مجتمعة، وكلما تطور المجتمع تحقق فيه للفرد حرية الانتقال من جماعة لأخرى، دون أن تكون الجماعات طاردة للفرد أو منغلقة وجامدة. عندما تُصبح المجتمعات صندوقا خرسانيا كبيرة بداخله مجموعة من البالونات، فإنَّ هذا المجتمع مجتمع حضارة وإنتاج. وإذا تطوَّر أكثر فإنَّ تلك البالونات تصبح مفتوحة دون أن تنفجر بحيث تسمح للأفراد بالخروج والدخول، وتبقى خرسانة المجتمع تحمي الجماعات، وتسمح لها بالإنتاج وصناعة الحضارة.