وإن سر بعضهم أحيانا"!

يوسف عوض العازمي

كاتب كويتي

 

قبل قليل من كتابة هذه الكلمات، وصلني عبر وسائل التواصل خبر عن مُسابقة لإلقاء قصيدة "صحب الناس" للشاعر أبو الطيب المتنبي، ينظم هذه المسابقة قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة الكويت (محدثكم أحد طلبة الكلية)، وهذه المسابقة كما استنتجت من قراءة النشرة الموزعة واضح أنها فقط لتنمية طريقة إلقاء القصيدة لدى الطلبة، ورصدت لها جوائز رمزية، وبالطبع هو توجه محمود ويستحق الذكر، فكثيرا" من القصائد ضاعت أو نسيت لأنها لم تحظ بإلقاء مناسب، لذلك علينا تشجيع مثل هذه المسابقات المنتجة للمواهب والداعمة لها..

نرجع للقصيدة وهنا لن أدخل بنقد أو تحليل أو قراءة لها ولأبياتها فهذا ليس تخصصي وللتخصص أهله المعروفين بمهنيتهم ومواقفهم الأدبية في النقد والتحليل، لكني توقفت عند بيت في القصيدة وأظنه البيت الثالث، وهو:

 

وتـولـوا بـغـصـة كـلهم منه

وإن سـر بـعـضـهـم أحيانا ..

 

هذا البيت يحتوي على صور شعرية متعددة، بل هو قصة لوحده، وهنا تتجلى موهبة وقدرة المتنبي المتفردة، هذا بيت يُعطيك مساحات مختلفة من الواقع والخيال، ومن الذهاب والإياب في الشرح والتحليل وتفكيك المعنى وتحليله، فقد أطرحه كبيت يتحدث عن حدث اجتماعي، أو حادث سياسي، أو حتى ينطلق ليكون بداية لرواية تبدأ منه وتنتهي به!

مثل هذا البيت ممكن جدا أن يكون قصيدة لوحده، ولا داع للأبيات السابقة أو اللاحقة، تخيل معي واقرأ من بداية البيت عندما يبدأ بواو العطف ثم التولي، والتولي هنا ينزل بالقارئ إلى عدة طرق للتولي، فهل تولى فلان عن الأمر هذا، أم تولاه، أو تولى عنه، ثم يستكمل المعنى الذي يبعد التخمين عندما يقول "بغصة" الغصة هنا هي الوجع والضرر النفسي، لكنه يذهب لصفة الجمع في "كلهم" وهنا يبدو الحدث وكأنه أكبر من فرد أو شخصية واحدة، ليجبر المعنى في "منه" وهي سببية للمعنى، وتجر كلمة "كلهم" لتبدو متناسقة في الرتب المكتوبة..

 

في الشطر الثاني يبدأ أيضاً"بواو العطف، ويتضح لدي وحسب فهمي أنّ مفردة أو لفظ "سر" هي العمود الفقري للبيت، وهي القاعدة المتكأ عليها في معنى وتشكيل البيت، وبعد الاندفاع الاعترافي بكلمة "سر" يبدو لي الشاعر وكأنه يعدل في جلسته ليغير نظام المعنى إلى "بعضهم" وهنا ندخل على معنى متأرجح الوضوح يتركب على فعل ماض ولا يركب على تحديد معين، إذ ذكر الصفة العامة، التي ربما لها معنى في بطن الشاعر..

ويستكمل التأرجح بكلمة الختام "أحياناً" "، وما يلفت هو الترابط الزمني والمعنوي بين الكلمتين الأخيرتين "بعضهم" و"أحيانا" "وهذا ولاشك يحيل المعنى بأكمله إلى الغموض واللعب على ذكاء المتلقي، فلا هو من حدد ولا هو من أخفى، وأعتقد أنَّ الصنعة الشعرية هذه أساسها، ومن هذا الأساس ندخل للشعر الحقيقي، فالشعر الذي لايشغل مخ المتلقي ولايدخله في أسئلة واستنتاجات، هو مجرد تنظيم كلمات وأبعد ما يكون عن الشعر.

alzmi1969@