التقاعد.. حياة

فايزة الكلبانية

 

حديث شيّق تبادلته خلال الأيام القليلة الماضية، اجتمعت فيه بأستاذي المكرم حاتم الطائي وبوجود الإعلامية القديرة منى بنت محفوظ المنذرية، طفنا فيه بين ثنايا التجارب والتعليم وتدابير الأقدار والأيام، لنصل إلى حديث آخر نصل فيه لقناعة وحقيقة أن "التقاعد.. حياة" وفعلا "المتقاعدون منجم من الخبرات" لذا لابد أن نعي أن ّالتقاعد مرحلة تنقلنا من العمل الرسمي إلى حياة جديدة قد تسودها "الحرية" غالبا وعدم التقيّد، ولكنها أبدا لا تعني انتهاء زمن المتقاعد أو دوره في الحياة وبناء الوطن.

لذا لابد من لفتة واجتراح وظائف خاصة بفئة "المتقاعدين" للاستفادة مما يملكونه من خبرات ومهارات نحن بحاجة إليها، فإذا لم تكن وظائف وأعمالا مستمرة فلتكن عقدًا مؤقتًا أو على شكل هيئة استشارات ولكن ليس استغناء كاملا. وبالطبع لا نعمم ذلك على الجميع إنما على من نعدهم خسارة أن يفقدهم سوق العمل لما يتمتعون به من علم وعطاء وذكاء وحسن إدارة وإنتاجية.

"التقاعد" هو مرحلة من مراحل الحياة التي مرّ بها الكثيرون، وسيأتي يوم نمر بها نحن أيضا، كما أنّها تعد مرحلة تنظيمية تتبع ضمن خطط وأنظمة العمل من منطلق "الراحة" لهؤلاء المتقاعدين لتقدم أعمارهم، ولكونهم أعطوا وأفنوا الكثير من أوقاتهم بمختلف مراحل الحياة في الكد والعطاء، "كفو وأوفوا" فأدوا رسالتهم لأنفسهم ولأوطانهم، وبناء عائلاتهم، وسنّة الكون تفرض أن تأتي بعدهم أجيال أخرى تواصل المسير، وتحل محلهم من شباب خريجين، وباحثين عن عمل، أو ترقية.

ما أراه جميلا ومفرحا أن يجد بعض من هؤلاء المتقاعدين فرصا أخرى للعمل في الشركات أو المؤسسات، وأحيانا يرتادون مجال الأعمال الحرة والسوق بإقامة مشاريع يمولنها من مالهم الخاص وغالبا ما يكون مصدره مكافأة نهاية الخدمة لكونهم يجدون أنفسهم قادرين على العطاء إلى هذا العمر.

صحيح قد تجبرهم أنظمة العمل على التقاعد في سن معين، ولكن البعض منهم يرى أنّه لا زال قادرا على العطاء، وأن دوره في حياة العمل لم ينته بعد، أو أن ظروفه المادية والتزاماته المالية لا تسمح له بالتقاعد خاصة إذا كان مرتب التقاعد لا يكفي وأبناؤه ما زالوا في طور الدراسة ولم يصلوا لمرحلة الاعتماد على النفس والاستقلالية، فيجد نفسه قد بلغ سن " التقاعد" وكل ما حوله يدعوه ويجبره على الاستمرارية؛ وبرغم هذه الظروف جميعًا نجد البعض ممن يعيشون حول هذا الشخص "المتقاعد" ينظرون إليه بنوع من الضيق دون أن يقدروا ظرفه.

وتجد أحيانا من يقول "بسه فلان من الشغل.. كبروا أولاده ولا زال يهلك نفسه ؟!!".. وبرأيي أنّ هذا النوع من الناس لا يستوعب مدى صعوبة مرحلة التقاعد على نفسية المتقاعد، وأنّ حاجته للعمل ليس بالضرورة أن تكون لأغراض مادية فقط -مع أن ذلك لا يقدح فيه-  وإنما مرتبطة بأهداف أخرى لا يشعر بها إلا من مرّ بهذه المرحلة، بحيث تنقلب الموازين من حولك فجأة وتغدو بلا عمل حقيقي أو روتين اعتدت عليه عشرات السنوات.

اليوم أضع نفسي مكان والدي العزيز "المتقاعد"، وأمي غاليتي المقبلة على التقاعد قريبا، وكل شخص "متقاعد"، وكم هو صعب أن تكون يوما تصول وتجول بين الطرقات والمؤسسات وأروقة المكتب في مكان عملك، تعيش يومك بين الأعمال، تتفق وتختلف مع زملائك بالعمل ومديرك بالعمل، تنجز وتحصد ما أنجزت، وتستلم راتبك الشهري لتوزعه على مصاريفك والتزاماتك العائلية قبل الشخصية ويتقدم بك العمر وتكون قد بلغت مكانة مرموقة في عملك وأصبحت اليوم "منجم من الخبرات" قادر على الاستشارة والنصح والإرشاد والعطاء والبناء أكثر من ذي قبل، ثم فجأة تنصدم بنظام "التقاعد" لتجد نفسك بعيدًا عن جو العمل، في وقت كان من المفترض فيه أن يتم الاستفادة فيه من خبرات هذا "المتقاعد" في مكان آخر، والمحظوظ من هؤلاء المتقاعدين "المسؤولين" من يجد نفسه في قائمة "أعضاء مجلس الدولة" أو أي جهة استشارية تتيح له الفرصة لينقل تجاربه وخبراته وكل ما علّمته تجارب الحياة وبيئة العمل للجيل القادم من بعده، سواء في مجال عمله أو غير ذلك..

تأكدوا أنّ هؤلاء المتقاعدين قادرون على العطاء اللامحدود، ويرحبون بذلك حتى وإن كان عملا تطوعيا؛ لكونهم قد وصلوا مرحلة من العمر أيقنوا وتشربوا فيها بأمانة المسؤولية وأنّ عليهم دورا وواجبا تجاه الوطن وأبنائه.

نلاحظ أنّ المتقاعدين الأجانب يجعلون مرحلة التقاعد متنفسا لهم فيجوبون العالم بحثا عن السعادة والمتعة والترفيه بدون قيود أو ارتباطات؛ لكن في بلادنا قد يكون "التقاعد" نهاية لحياة المتقاعد لكونه اعتاد على الحركة والعمل والعطاء، وقد تبدأ أعراض المرض والكبر تهاجمه نتيجة القلق والتفكير والحساسية من أبسط الأمور... فرفقا بهذا " المتقاعد".. ولتحاولوا أن تتفهموا موقفه وإعانته في التغلب على هذه المرحلة من مراحل الحياة بتفهم وهدوء وعقلانية. فكلمات "متقاعد أو غير متقاعد" هي مجرد آليات فرضتها علينا أنظمة العمل لتنظيم سوق العمل بين الأجيال المتعاقبة؛ وبالطبع هي ليست نهاية الحياة.