آن الأوان لنغير مفاهيمنا عن التعليم (2)

 

التعليم لأجل الحياة

 د. صالح الفهدي

 

ماذا يستفيد الوطن من عشرات الآلاف من الطلاب الذين يكملون تحصيلهم الدراسي وهم لا يمتلكون خبرات تعينهم على الكسبِ مما تميلُ إليه قدراتهم؟! لقد رثيتُ لحالِ الكثير من الطلاب الذين لا يطيقون الجلوس في فصل، ليحفظون القصائد، وجداول الضرب، أو يتدربون على حلِّ على المعادلات والنظريات، بينما هم بارعون في مجالات أُخرى فنيَّةً أو تجاريةً أو زراعيةً.. وكأنما يكون التعليم لهؤلاءِ أشبه بالقفص الذي يحبسُ الطائرُ فيه عن التحليق في الفضاءات المفتوحة.

يُنظر في المجتمع إلى من لم يكمل تعليمه المدرسي أو الجامعي نظرةً دونية، وكأنّه الطريقُ الأوحد إلى النجاح وتحقيق الإنجاز، وهذا مفهومٌ خاطئ، فكثير من الذين قدَّموا أعمالاً عظيمة للإنسانية اتخذوا بديلاً آخر غير المكوث لسنوات في الفصول الدراسية، فقد نشر موقع  CNN Arabic  تقريراً حول بعض الأثرياء الأمريكيين المشهورين لم يكملوا دراستهم وبدلاً من ذلك سلكوا الطريق إلى ما يحقق شغفهم، ويُثري قدراتهم، يأتي على رأس القائمة بيل غيتس مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة Microsoft أكبر شركة برمجيات في العالم، وستيف جوبز الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة Apple السابق وهو صاحب فكرة جهازIpod  و الـ Ipad، ومارك زوكربيرج، مؤسس موقع Facebook أكبر شبكة اجتماعية في العالم ويعتبر أيضا أصغر ملياردير في العالم.

المغزى من هذه الإحالة ليس ترك التعليم وإنَّما خلق مسارات نوعيَّة للمتعلمين بحسب الميول الشخصية لدى الأفراد الذين لا يمكن إجبارهم على سلوك طريق تعليمي واحد لا بديل له. هذا الأمر مطبَّق في العديد من دول العالم؛ ففي فنلندا تنقسم مرحلة التعليم الثانوي إلى ثانوي عام 60% من الطلاب مدتها ثلاث سنوات قابلة للاختصار أو التمديد، وثانوي مهني وفني40% من الطلاب وتضم سبع مؤهلات مختلفة هي: الإدارة والأعمال، التكنولوجيا والنقل، التغذية والعلوم المنزلية، العلوم الاجتماعية والصحية، الترفيه والرياضة، والثقافة والموارد الطبيعية. أمّا في الولايات المتحدة الأمريكية فتنقسم المرحلة الثانوية إلى نوعين: المدرسة الثانوية الدنيا ومدتها ثلاث سنوات، وهذه تعد للدراسات المهنية، والمدرسة الثانوية العليا ومدتها ثلاث سنوات أيضًا، وتعد هذه المدارس للكليات الجامعية.

وإذا كنَّا نتحدث عن ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، فإنَّ تلك التخصصات تبدأ في المراحل التعليمية المدرسية، وهذا ما يعتبرُ حلاً لما يواجهه السوق من خللٍ في القدرات، ونقصٍ في المهارات، حتى وإن تلقَّى المتدربون تأهيلاً خاصاً بعد التعليم المدرسي. يقول أحد أصحاب المعاهد الفنية "إننا نبني في مرحلة متأخرة، ما كان يفترضُ أن تبنيه المدرسة في مرحلةٍ مبكرة".

أحدُ الشباب الذين لم يكملوا تحصيلهم الدراسي كان ميوله فنيَّاً، فلما يئسَ من البحثِ عن وظيفةٍ لعدم امتلاكه (شهادة)..! انخرطَ ليتدرب في أحد المعاهد الفنية التخصصية، وها هو اليوم يشبع شغفه بما تميلُ إليه نفسه، لتتعاقد معه إحدى الشركات كفني متخصص.

إنّ التجربة السابقة في وجود المدارس التجارية، والصناعية، والزراعية للمرحلة الثانوية كانت تجربة مثرية، وسليمة، وأعتقدُ أنّ هذه المدارس لو كُتبَ لها أن تستمر مع أخذها بالمتغيرات لكانت قد رفدت أسواق العمال بشتى الخبرات والكفاءات، أمّا اليوم فلدينا (70) ألف فرصة عمل في مجال إصلاح السيارات فقط، لو خلقنا لها مساراً في التعليم المدرسي لما شغلها الوافدون واستغلوا العوائد المالية المثرية منها...!

لقد أصبحنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى تغيير مفاهيمنا نحو التعليم فنحن نناقضُ أنفسنا بأنَّ العامل الوافد هو المستفيد الأكبر مما يجنيه من أرباح تدرُّها عليه سائر المهن، ولو أننا غيَّرنا مفاهيمنا نحو التعليم لأوجدنا -منذ بواكير التعليم المدرسي- مذاهب مختلفة لكلِّ متعلم، فـ "كلٌّ ميسَّرٌ لما خُلقَ له" ولأصبح اليوم عندنا من أبناءِ الوطن عمَّالاً مهرةً في جميع المجالات؛ نجارين، وسبَّاكين، وفنيي سيارات ومكيفات، وأدوات كهربائية، ومزارعين، وغيرهم، وكلَّ هؤلاءِ لم تكن الحاجة إلى المعيشة هي دافعهم لامتهان تلك المهن، وإنَّما الأصل أنها تتوافقُ مع ميولهم ورغباتهم فتم صقلها وتهذيبها من خلال التعليم.

وليس تغيير المفهوم نحو الشهادة المدرسية أو التخصص أو الاتجاه مقتصراً على مسيرة التعليم، وإنَّما على المجتمع ذاته، الذي يفترضُ أن يدعم هذا الاتجاه الذي لا يسلم من المخاطر لكنه الأعلى دخلاً.

لقد آن الأوان لنغيّر مفاهيمنا عن التعليم لأجل الحياةِ، فـ"التعليم –كما يقول جون ديوي- ليس استعداداً للحياة، إنّه الحياة ذاتها"، علينا أن نتبنى قناعات أكثر انفتاحاً، وأعظمُ فرصاً.