حاتم الطائي
اليوم.. وبعد أربع سنواتٍ شَرفتُ فيها بثقةٍ غاليةٍ وتكليفٍ سامٍ من لدن مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- حظيتُ بموجبهِ بعضوية واحدٍ من أكبر المؤسسات التشريعية في الدولة "مجلس الدولة" في دورته السادسة، وفي توقيت استثنائي معبَّق بروح العمل الوطني لتحقيق مزيد من الإنجازِ في شتى ميادين العمل النهضوي، صحيح أنَّ خُصوصية التجربة العُمانية تمنح مسيرة التنمية بشكل عام صكَّ الاستثناء والتفرُّد طوال خمسين عامًا تقريبًا، إلا أنني على يقين -يُشاركني فيه الكثير- بأنَّ الأعوام الأربعة التي خلتْ تحديدًا، حملتْ بُشريات ومؤشرات إيجابية للعمل التنموي ترفع مُؤشر الأمل في مستقبل أكثر إنجازا وإشراقًا؛ خصوصاً مع القطاعات المميزة التي شملتها الخطة الخمسية السادسة، والجهد المضاعف لإتمام إنفاذ "رؤية عُمان 2020"، ورسم ملامح المستقبل في "رؤية عُمان 2040"، وجهود تحقيق التنويع الاقتصادي، وتعميق مضامين التنمية اقتصاديًّا ومجتمعيًّا، وصولاً للأداء الدبلوماسي المتحقَّق لسياسة الاتزان الخارجي في التعاطي مع التطوُّرات العالمية التي بدأت فيها مراكز القوى تتبدَّل، بينما يظل الجهد العُماني -بتوفيق من الله- يحرز تقدُّما مبهرًا في الحفاظ على جَوهره المتفرد، تَوجَّهت لقاءه أغلى التكريمات الدولية من كلِّ حدب وصوب إلى خزائن مسقط العامرة لتتوِّج مسيرة نماء مُشرِّفة، يحق للجميع اليوم أن يفخر ويفاخر بها.
وأعود مجددًا إلى سنوات التشريف التي قضيتُها في رحاب مجلس الدولة الموقر -كإحدى غرفتيْن ينطوي عليهما مجلس عُمان- كأعلى نُقطة يُمكنك أن تستبينَ من خلالها دعائم استقرار دولة المؤسسات والقانون في بلادنا، وهي مُناسبة أراها مهيَّأة لأن أضع بين يدي القرَّاء الأعزاء مجموعة نقاط من واقع معايشة مراحل سير التجربة التشريعية في بلادنا؛ ولعلَّ نقطة الابتداء في نظري أساسُها مضمون الحِكمة التي اقتضتْ تقسيم مجلس عُمان إلى غرفتيْن (الدولة والشورى)؛ واليوم يُمكنني أن أقول إنَّ تقسيمًا كهذا، وبهذا الحجم من الصلاحيات الممنوحة للأعضاء، إنما هو تحقيقٌ عمليٌّ للتوازن المطلوب الذي أرادَه مولانا المعظم وضَمِنَهُ النظامُ الأساسيُّ للدولة بين الرأي الشعبي (مُمثَّلا في أعضاء مجلس الشورى)، ورأي قامات من الخبراء والمختصين (مُمَثَّلِين في أعضاء مجلس الدولة)، وهو ما يُفسِّر الأوامر السامية بتعيين أعضاء مجلس الدولة من خِيرة كفاءاتنا الوطنيَّة، في مُقابل منظومةٍ انتخابية حُرة تُهيِّئ المسارَ أمام اختيار ممثلين عن المواطنين. ومن خلال مُعايشة التجربة وفهم هذا المساق الرئيسي؛ فقد كانتْ دَورة إقرار القوانين في حال حدوث تباين بين آراء المجلسين، تقتضي الدعوة لجلسة مشتركة يُدعَى لها أعضاء المجلسين، ليُحسم فيها الاختلاف بالتصويت المباشر، ومن ثمَّ يُتَّخذ القرار النهائي، الذي يَضع نُصب عينيه الصالح العام، ومن ثم تُرفع للإقرار والاعتماد، لتصدُر بمباركة سامية في صورة قانون.
وهذه السلسلة الإجرائية التي تحكتم للتأنِّي والتراتبية الإيجابية، تقود لنتيجة واحدة؛ وهي أنَّ عِماد النهجِ التشريعيِّ في بلادنا هو صَوْت المواطن، فهو الفيصل بالبت في كل الموضوعات المطروحة تحت قُبة المجلس، في ظلِّ رغبةٍ ساميةٍ من القيادة السياسية الحكيمة للبلاد بعدم القفز على المراحل، أو حرق المسافات الزمنية، وإنما إيلاء كل مرحلة كاملَ العنايةِ في الدراسة والتقييم والتطوير.
... أربع سنوات مَضتْ، كانت بكلِّ صدق مُعاينةً واقعيةً للدِّقة البالغة المُنتهجَة في مَرَاحل إصدار التشريعات الوطنية.. تشريعاتٌ تراعي مصالح أبناء الوطن، تمامًا كما تحفظ للوطن نفسه قُدسية رمزيته، وكحافظٍ أمين لتاريخ عُمان المجيد.. أربع سنوات كان لي شرفٌ الإسهام بكل تواضع مع زملائي المكرمين في النقاشات والحوارات المختلفة سواءً في الجلسات الخاصة أو العامة؛ للوصول إلى أفضل النتائج.. نقاشاتٌ كان سمتُها الهدوء والتحاور الإيجابي البناء، وتبادل وجهات النظر بَيْن خِيْرةٍ من الخبرات الوطنية ممن يحقُّ لنا أن نفتخرَ بهم، ونلتُ شرف التواجد بينهم، نعملُ جميعًا من أجل رفعة هذا الوطن.
فعلى مستوى التخصُّص -وهي نقطة أخرى مُميزة- يتمُّ تقسيم المكرمين أعضاء المجلس إلى لجان تخصُّصية؛ لضمان مزيد من الإفادات الوطنية، وكنتُ واحدًا من أعضاء "لجنة الثقافة والإعلام والسياحة"، التي -ولله الحمد- كان لها إسهامُها الوطني في إنجاز العديد من دراسات القوانين؛ منها مثالا وليس حصرًا: دراسة خاصة بالمسرح، وأخرى بالمكتبات، وثالثة لتنظيم الإعلان، ورابعة للحرف... وغيرها. أما على مستوى الجلسات العامة، فلَكَم كانتْ حافلةً بالنقاشات المُثمرة، التي يُمكنني أن أقول بأنها كانت أشبه بجلسات عصف ذهني من أجل إيجاد نقاط انطلاق تُعَالِج قضايا الوطن والمواطن، عصفٌ وطنيٌّ حقيقيٌّ -إن جاز لي أن أصفه- كان يُديره باقتدار وحِنكة معالي الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري الموقَّر رئيس المجلس؛ في إطار ضَمِنَ رُؤية ومُعالجة الموضوعات محلَّ النقاش من زاوية تُشبه تقنيات الـ360 درجة، لقراءة شُمولية واعية للواقع، تُعِين على اتخاذ ما يلزَم؛ خدمةً للصالح العام.
ولَكَم كانت ثمار الدورة السادسة أيضًا يَانِعة، تؤتي أُكُلَها، لمسيرة تشريعية مُتفردة، حملتْها مُشاركات السَّلطنة في المحافل الدولية -مُمثلين عن المجلس- إلى جانب مسيرةِ العمل داخل قاعات مجلس الدولة؛ ناقشنا خلالها: 4 مشروعات خاصة بالموازنة العامة للدولة، ومشروع الخطة الإستراتيجية الخمسية التاسعة (2016-2020)، و20 مشروعَ قانون جديدًا أو معدلًا أُحيلت إلينا من مجلس الوزراء الموقر، إلى جانب 7 مشروعات مُقترحة من مجلس عُمان نفسه، و23 مقترحا ودراسة وَضَعتهَا اللجان العاملة بمجلس الدولة.. وأذكر هُنا: قانون الشركات التجارية، وقانون الثروة المعدنية، وقانون الضريبة الانتقائية، ومشروع "قانون (نظام) العلامات التجارية لدول مجلس التعاون"، ومشروع "قانون تنظيم وحماية مواقع الأفلاج المدرجة بقائمة التراث العالمي"، ومشروع قانون التراث الثقافي، ومشروع قانون الجزاء العُماني، ومشروع "قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب"، إلى أن تكلَّلت -بتوفيق الله- بجُملة القوانين الاقتصادية الأخيرة التي باركها حضرة صاحب الجلالة وأتمتَّ المنظومة التشريعية المحفزة لاقتصادنا الوطني، بشأن الاستثمار الأجنبي، والشراكة بين القطاعين، والإفلاس، وإنشاء الهيئة العامة للتخصيص؛ إضافة لمناقشة "إطار ومحددات مشروع قانون الدَّيْن العام"، كأحد أهم القضايا التي لها تأثير مباشر على الاقتصاد الوطني ومستوى معيشة ورفاه المواطنين.
وأزيد هُنا، بأنَّ الأمرَ السامِي الكريم بفضِّ دور الانعقاد السنوي الرابع لمجلس عُمان اعتبارا من اليوم، والذي جاءَ الأسبوع الماضي، يَجْعل من مراسم التدشينَ الرَّاقي للهوية البصرية وإطلاق البوابة الإلكترونية لمجلس الدولة سِنامَ خيرٍ لختام الدورة السادسة لمجلس عُمان عمومًا والدولة على وجه التحديد؛ حيثُ دُشِّنتْ هذه التقنيات الحديثة وفق المعايير والمواصفات الدولية للمواقع البرلمانية، وباللغتين العربية والإنجليزية، تتويجًا لجهود مواكبة الحراك التقني الواسع في العالم من حَولنا، وكجزء آخر وبرهان ساطع على مسيرة التطوُّر المتلاحقة التي يشهدها المجلس؛ تعزيزًا للتواصل المباشر مع المجتمع، ونقل ما يحدث داخل المجلس للجميع، وتشكيل صورة ذهنية عن المجلس ولجانه واختصاصاته وأنشطته، بما يضع المواطن على مقرُبة من الإلمام بنجاح المسيرة الشوروية في السلطنة، وفاتحة خير للتعامل مع البرلمان الرقمي.
ويبقى أن أقول.. إنَّنا اليوم، وبانتهاء أعمال الدورة السادسة من مجلس الدولة، وباستشرافٍ كاملٍ لمسيرةِ بلادنا التي تلجُ بوابات مُستقبلها بثباتٍ وثقةٍ، ليُشرِّفني أن أرفع إلى مقام جلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- أسمى عبارات العرفان والامتنان على ثقتِه السامية الغالية، وما حَظِيتُ به من تشريفٍ سامٍ، مُعَاهِدًا جلالته بمُواصلة العمل الوطني بكل أمانة ومسؤولية لكل ما فيه خير ونماء هذا الوطن، مُستعينا بعَون الله، ومستلهمًا من مَضمون التوجِيهات السامية لجلالته بأنَّ مُنجزات هذا البلد لم تكن لِتتحق أو "تظهر على أرض الواقع لولا الجهد المبذول، والعطاء المتواصل، والإرادة الطامحة التي تستشرف المستقبل، وتعمل من أجل غدٍ أفضل وأجمل".
رَعى الله مسيرة بلادنا بعَيْن رعايته وعميم فضله...،