شركات التوظيف بين المسموح والممنوع

 

د. عبدالله باحجاج

شركات التوظيف هي ظاهرة عالمية، وقد برزت داخل منطقتنا الخليجية خلال السنوات الماضية بصورة لافتة نتيجة الجنوح نحو الرأسمالية المُتوحشة، وقد أصبحت شركات للتوظيف عابرة للحدود، تستحوذ على مناقصات داخل دول غير المقر وغير الوطن، مما يظهر لنا الآن فالمشهد مقلق في ضوء انتقال هذه الظاهرة إلى بلادنا، وهو أي المشهد ما يعبر عنه التساؤل التالي: هل سيتم عولمة التوظيف بواسطة شركات ربحية محلية واجنبية؟

نطرح هذا التساؤل في ضوء متابعتنا لظاهرة شركات التوظيف في دول المنطقة عامة، وفي بلادنا خاصة، فهذه الشركات قد بدأت متغلغلة في الكثير من القطاعات الحكومية والعمومية، وقد تناولنا قضية شركات التوظيف في بلادنا في آخر مقالين، ورأينا فيها استغلال المواطن الباحث عن عمل ذهنيا وماليا وجهديا في مُقابل اقتطاع من أكثر من نصف راتبه، ورأينا فيها كذلك وقوع المواطن تحت رحمة شركات عابرة للحدود – وهذا ما كشفه تقرير مجلس الشورى، وللأسف هذا الانكشاف لم يحرك ساكناً أو يزحزح جامدًا .

مما بدأت تظهر معها بعض التداعيات فوق السطح بصورة مثيرة للرأي العام بعد فصل محاضر من إحدى الكليات التقنية التابعة لوزارة القوى العاملة، وتعاطف الرأي العام معه بسرعة فائقة، وقد زاد من هذه السرعة، بروز مصادر رسمية في موقف الدفاع ضد المُحاضر مستعينة بحقائق ينفيها المحاضر نفسه، ويطالبها بالدليل على أنه يحمل درجة الدكتوراه أو أنه رئيس شعبة.. وقد تنصلت الشركة عن الحضور إلى القوى العاملة في عبرى في أول لقاءاتها مع المحاضر.

هذه قضية أصبحت تستحوذ على المرتبة الأولى للرأي العام العُماني، لعدة دواعٍ تتزاحم أهميتها في المرتبة دون استثناء، كمثل الجانب الإنساني المُتمثل في أن يجد المواطن نفسه فجأة مفصولاً عن عمله بعد تجربة عمرها "12" عاماً، فكيف، ومن أين سينفق هذا المحاضر على أسرته كبيرة العدد؟ وكذلك ظهور المواطن كطرف ضعيف في ضوء رسالة خطاب فسخ عقده عن العمل فجأة، وفي ضوء تبريرات مصدر للوزارة لإحدى وسائل الإعلام الخاصة، فسرت – أي التبريرات – على وقوف الوزارة مع الشركة.

فهل كان ينبغي على هذا المصدر أن يتخذ هذا الموقف إعلامياً؟ موقف المصدر المنسوب للوزارة، يعتبر من بين كبرى المفاجآت للرأي العام، فمن خلاله أصبحت الوزارة طرفا أساسيا ومباشرا في القضية رغم أنها ينبغي أن تكون الضامن لحقوق العاملين والوسيط لحل الإشكاليات والمشاكل بين العاملين والشركات، نتمنى أن يكون مصدرها قد اجتهد من عنده، وأن اجتهاده قد خرج عن السياقات .. خاصة وأن مصدرا رسميا يحتل المرتبة الثانية "مكررا" في الوزارة، قد أكد قبل هذه الأزمة داخل قبة مجلس الشورى، أنه لا يمكن فصل أو إنهاء عقد عمل أي محاضر عماني إلا بموافقة وزارة القوى العاملة، وهذا هو الموقف الأصيل لوزارة القوى العاملة، ومنه نتمنى أن يفتح ملف المحاضر من هذا المنظور بعد ما لجأ المحاضر خلال الساعات القليلة الماضية للمرة الثانية إلى فرع الوزارة في عبرى لإنصافه واسترجاع وظيفته.

وحتى لو تمَّ حل قضية المحاضر، فإنَّ القضية ستظل قائمة من منظورها الوطني وتداعياته المستقبلية كقضية محاضر تقنية عبري، وكقضايا أخرى يعانون منها سواء من حيث الترقيات ..أو من حيث إذا منحوا بعثات دراسية عليا، وهناك حالات عالقة الآن في مجموعة إشكاليات كبيرة .. يرى المسؤولون في وزارة القوى العاملة أنهم غير معنيين بها، وإنما شركات التوظيف.

والحل نجده في مرئيات تقرير مجلس الشورى المرفوع إلى مجلس الوزراء – وقد تناول في مقال سابق – وهو ينطلق – أي الحل – من تجربة كليات العلوم التطبيقية التابعة لوزارة التعليم العالي، فهي قد منحت الاستقلالية المالية والإدارية، وتعين وتوظف مباشرة كل محاضر عُماني "مؤهل" ووصلت نسبة تعمينها إلى أكثر من النصف – يراجع المقال المعنون باسم "مرئيات حل قضية محاضري كليات التقنية".

نُشدد هنا على عدم تجاهل السلبيات التي تفرزها شركات التوظيف خاصة على العنصر العُماني، فاستمرار قضية شركات التوظيف في ضوء ما أفرزته من أزمة مع المحاضر الشماخي، ينبغي أن تدفع بالجهات التي يهمها الشأن الداخلي إلى التعاطي مع قضية المحاضر من منظور الحل الجذري بعد ما كشفنا في مقالنا السابق أن العقود المؤقتة أصبحت تمس الاستقرار النفسي والأسري لكل عماني، وأنها قد أصبحت تتعارض مع مفهوم المواطنة، وتعطينا الآن قضية الشماخي زوايا جديدة للرؤية التي يستوجب استنطاقها بصوت مرتفع بعد أن تم إدخاله في ضغوطات نفسية، لو كان غيره، لربما توسل وخضع للضغوطات حتى لا تتضرر لقمة عيش أسرتيه.

وماذا يؤشر ذلك؟ هنا منطقة وعي رفيعة، نعلي من شأنها للدواعي الوطنية، ومنها نقول إن إحكام قبضة شركات التوظيف الربحية بما فيها الأجنبية على حقوق العمانيين في العمل وفي الترقيات والمكافآت .. ستجعل أبناء هذا البلد تحت أجندتها وتوجيهاتها، وهنا تفتح لنا قضية المحاضر استشراف مستقبل هذه الشركات، فكم سيكون مثل الشماخي صامدا في وجه ضغوطات الشركات.. ؟ فمن السهولة أن يتحول الولاء أفقيا "نحو الشركات" في الوقت الذي ينبغي الحرص على بقائها "رأسيا" كما أسستها نهضتنا المباركة منذ انطلاقتها عام 1970.

ونؤكد على الفقرة الأخيرة، ونحث المُراقب السياسي لشأننا الداخلي أن يعمن التفكير فيها، فالولاء والانتماء، هو أحد عوامل قوتنا الناعمة الأساسية التي واجهنا بها التحديات الكبرى القديمة والمعاصرة – الداخلية والخارجية - وهى رهانات الدولة والمجتمع مستقبلاً، وبالتالي لا ينبغي أن نسمح لأي شركة محلية أو خارجية أن تقترب منه مهما كانت المبررات، وكيف لو علمنا أن هناك شركة – وربما شركات – للتوظيف عابرة حدودنا من محيطنا الإقليمي، فهل نضع مستقبل الولاء في أيديها؟ هذا في حد ذاته مداعاة لفتح هذا الملف فورا، وليس تجاهله أو حتى تأجيله.

والولاء هنا، نوعي وكمي في آن واحد، لأن أطرافه نخب متعلمة ومثقفة، أنيط بها عمليات تأسيس الذهنيات الجديدة، مهنياً وقيميًا، فلا ينبغي أن تأمنه الشركات الربحية، المحلية أو الأجنبية، فهذه منطقة امتياز "سيادي" للمؤسسات الدستورية العمانية، فهي التي ينبغي أن تتولى الإشراف على التوظيف وعلى الترقيات والمساءلة والمكافآت .. وليس الأجنبي أو شركات ربحية، فهذا مسائل قد تدخل فيها النوايا السيئة، ومنطقة تظل مؤثرة على أية منظومة وطنية.

وهذه زوايا حادة في قضية شركات التوظيف، تشغلنا كثيرا، وهي من بين الأسباب التي تجعلنا نفتح هذا الملف للمرة الثالثة على التوالي، لذلك نرى أن توظيف كل عُماني مؤهل ومستحق لأية وظيفة، هو مسؤولية مؤسسات الدولة الدستورية، ومن ثم لماذا نحول هذه المسؤولية من المؤسسات الوطنية إلى شركات ربحية؟ قد نتفهم ونفهم دواعي تأمين الأطر والكوادر الأجنبية .. لكن الوطنية، وما دامت موجودة ومتوفرة .. فلماذا لا تعين مباشرة؟ ولماذا توظف على عقود مؤقتة؟ هنا خلل ينبغي تصحيحه فورا قبل أن تتصاعد تداعيات قضية شركات التوظيف، وتتعقد علميات التوظيف عبر تنصل المؤسسات عن مسؤولياتها، وربما لن يكون لديها مانع لو تمّت عولمة التوظيف.

وهذا النوع من العولمة في بلادنا له مؤشرات في واقعنا، كشركات التوظيف عابرة الحدود، وكبعض الشركات التي تعرض وظائفها في إعلانات خارجية .. لذلك لابد للمراقب السياسي أن يتدخل فورا ضد مثل هذه المسارات التي تخرجنا عن الوطنية، وأول مؤشر على هذا النوع من الاستدراك السياسي سيكون في قضية المحاضر الشماخي كحل آني وعاجل، وغل يد شركات التوظيف المحلية عن توظيف وتعيين العمانيين، ومنع شركات عابرة للحدود من ممارسة التجارة في هذا المجال.. فتوظيف كل عماني داخل وطنه.. حقوق سيادية وحصرية على مؤسسات الدولة الدستورية، لا يجب التفريط بها للشركات أبدا .