د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري
** كاتب قطري
خلال مئة عام، تحول الخليجيون من العيش في مساكن العشش والبرستيات والكبرات على السواحل الخليجية، والخيام وبيوت الشعر في البوادي والبراري، إلى بيوت الطين والحجر، إلى الفلل والعمارات المبنية من الخرسانة والطابوق والزجاج والألمنيوم، ثم أصبحوا يتنافسون في بناء ناطحات السحاب، هذا التطور العُمراني السريع، لم يكن ليتحقق لولا مجيء شركات البترول الأجنبية التي جلبت تقنية البناء الحديثة، فبنت مدناً حديثة لمُوظفيها، بدءاً من الخمسينيات كمدينة الأحمدي بالكويت، كما صورها المُسلسل الرمضاني المُمتع (لا موسيقى في الأحمدي) ومدينة أرامكو، بالظهران، ومدينة أمسيعيد، جنوب قطر.
وكما أسلفنا فإنَّ المُنتجات التقنية القادمة من المجتمعات الأخرى إلى المجتمع الخليجي، تحمل ثقافتها معها، والمجتمعات تتفاوت في قبول أو مقاومة الوافد الجديد، المجتمعات الآخذة بسنة التطور، جلبت الحداثة التقنية بثقافتها ونظمها، بدون مقاومة مجتمعية للقيم الثقافية الجديدة التي تمازجت وتفاعلت مع ثقافاتها التقليدية، فاستوعبت روح العلم الحديث واهتمت بالبحث العلمي في كافة الميادين التنموية، ونجحت في دمج ثقافتها التقليدية في ثقافة العصر، وتغيرت ثقافياً وسياسياً وحضارياً، واستطاعت تحقيق نهضة مشهودة وإنجازات تقنية مبهرة، في فترة وجيزة، نافست بها المجتمعات المزدهرة، بينما المجتمع الخليجي والمجتمعات العربية، وبسبب تجذر مُمانعتها الثقافية، ورسوخ مواريثها الاجتماعية، واستعلاء هويتها الدينية والقومية، قاومت التغير بضراوة، فجلبت التقنيات بدون قيمها الحداثية الكامنة وراءها، والنظام المعرفي المنتج لها، تمسك المجتمع الخليجي بقيم عصر ما دون الدولة، رغم انغماسه في مظاهر التحديث التقني .
ورغم التغييرات الدراماتيكية للحياة الخليجية، بفضل الفائض الريعي الذي مكن من التحديث التقني والعمراني، إلا أن الثقافة الخليجية عصية على التغيير تجاه قضايا رئيسية: وضعية المرأة المجتمعي، مفهوم المواطنة، نظام المؤسسات، حكم القانون، استقلال القضاء،القيم الليبرالية، قبول الآخر المذهبي والديني والإثني، الإسلام العقلاني، وهي قضايا تشكل روشتة ازدهار المجتمعات، لازالت الثقافة الخليجية موصولة بروافد قبلية تعصبية استعلائية إقصائية، ولم تستطع إحداث قطيعة معرفية معها، لم تتطور ثقافة الدولة الخليجية، كما تطورت بنيتها العمرانية وهياكلها الاقتصادية والإدارية، وذلك لجملة معوقات :
1- الذهنية الانتقائية التي أخذت من الحضارة المعاصرة جانبها العلمي والتقني والعمراني، دون نظامها المعرفي وقيمها الليبرالية ونظمها الديمقراطية والحقوقية، كانت معوقة لتفاعل الثقافة الخليجية بالوافدة .
2- الدولة الخليجية التي أضعفت فعالية الثقافة في الارتقاء بالمجتمع الخليجي، كونها تتمظهر بوجه حداثي ومدني عصري على الصعيد العالمي، لكن سلوكها في الداخل مناقض لقيم الحداثة، خطابها الإعلامي يُناصر حقوق الإنسان ويتغنى بالديمقراطية والحريات، لكن تشريعاتها ومُمارساتها تشوبها التمايزات، تتلبس بثقافة الدولة الحديثة في الخارج، وثقافتها في الداخل، تعلي من قيم روابط الدم والنسب والتقاليد والأعراف وروح الفزعة .
3- طغيان ثقافة الاستهلاك على حياة الخليجيين، مما جعل الثقافة ترفاً أو شأناً نخبوياً ينشغل به المثقفون أنفسهم، ما سوغ لمثقفي دول (المراكز) العربية، تسمية الثقافة الخليجية بـ (ثقافة البترول).
4- حضور الموروث التقليدي، في ثقافتنا العربية والخليجية بقوة، مشكلاً وعياً زائفًا يُحيط بنا، طبقاً للدكتور محمد الرميحي، يؤكده أنَّ نظرة المجتمع الخليجي وتشريعاته تجاه المرأة، لازالت محكومة بالموروث الثقافي الماضوي، ولازال مفهوم (المواطنة) مختلاً، وفضاء (الحرية) مضيقاً .
5- الثقافة الخليجية مغيبة في المناهج الخليجية، بينما تحضر ثقافة دول (المراكز) العربية بقوة.
6- يعايش المثقف الخليجي وضعاً اجتماعياً وسياسياً استثنائياً، فإما أن يكون (مثقفاً مدجناً) يُساير التيار العام ويتخلى عن رسالته الإصلاحية، ليعيش غانماً منعماً، وإما أن يكون (مثقفاً مستقلاً) يتخذ مواقف نقدية للأوضاع العامة، فيصبح مهمشاً غارماً، متهما بالشذوذ الثقافي، طبقاً للزميل عبد العزيز الخاطر.
ختاماً: عبر مئة عام طور الخليجيون نظم معيشتهم وعمران بلدانهم، لكن ثقافة الدولة الخليجية بقيت تمثل قيم ما قبل الدولة الحديثة (زمن النزاعات القبلية) وما هذا الانقسام الخليجي وهدر المال إلا أحد تجليات هذه القيم.