الدقم .. مشروع الوطن

حاتم الطائي

 

 

◄ الدُّقم تشهد تنمية مُتسارعة بإجمالي 3 مليارات ريال إنفاقا حكوميا على البنى الأساسية

◄ يجب أن نوجه بوصلة اهتمامنا نحو الدقم لاعتبارات استراتيجية وتنموية واقتصادية

◄ المكانة المرموقة للسلطنة دوليا تؤهل الدُّقم لتكون نقطة ارتكاز لحركة التجارة العالمية

◄ تكاتف جهود المؤسسات والمواطنين السبيل الأمثل لإنجاح هذا المشروع العظيم

 

 

 

 

ليست هذه المرَّة الأولى التي أتحدَّث فيها عن الدُّقم تلك المنطقة الاقتصادية الواعدة بكل ما تعنيه الكلمة، لكنَّ الأمرَ يتطلب منِّا دائمًا مُتابعة المُستجدات والوقوف عند ما تمَّ إنجازه على أرض الواقع، من نجاحات منقطعة النظير، تُبرهن- بلا أدنى شك- أنَّ العملَ في هذه المنطقة يتواصل وبتكاتف السواعد وبعلو همِّة من المسؤولين عن المنطقة، وكل ذلك يدفعنا لمزيد من التفاؤل بالمستقبل المزدهر للدقم، جوهرة القطاع اللوجستي.

وقبل أن أستفيض في الحديث عن هذه المدينة النَّاهضة، يهمني في المقام الأول التَّشديد على أنَّ التنمية المُتسارعة في ربوع السلطنة تمضي قُدمًا بلا تراجع في خطط أو تأجيل لاستراتيجيات، على الرغم من التحديات الاقتصادية والمالية التي نُواجهها منذ قرابة خمس سنوات، خاصة بعد التَّراجع الحاد في أسعار النفط وتداعيات ذلك على المالية العامة للسلطنة. لكنَّ الحكومة الرشيدة وخلال هذه السنوات نجحت بكفاءة مشهودة في أن تتلمس طريقها نحو الخروج من الأزمة، ومررنا جميعًا بما أطلقنا عليه مرحلة "عُنق الزجاجة"، واستطاعت السياسات الحكومية الخروج من هذه الأزمة، بأقل التداعيات، فحدث أن قلَّصت الحكومة بنود الإنفاق في الميزانية العامة للدولة، واقتصر الأمر على المشاريع الكبرى وكذلك الإنفاق الاجتماعي الذي لم يتأثر مطلقًا.

تدابير احترازية

وقد أسفرت التدابير الاحترازية التي كان يتم الإعلان عنها بين الفينة والأخرى عن تجنيب السلطنة اقتراض المزيد من الأموال سواءً من الداخل عبر أذون الخزانة وغيرها من الأدوات، أو من الخارج من خلال السندات الدولية والقروض أو حتى الصكوك، من أجل تغطية الإنفاق اللازم على التنمية في البلاد. ولذا يُمكن القول إنَّ هذه التنمية المُتسارعة لم تكبحها التحديات المالية، بل ساعدت على تكثيف الجهود للعمل من أجل دفع مسيرة هذه التنمية إلى الأمام، وتحويل المحن إلى فرص، وقد نجحنا في ذلك بدعم في المقام الأول من المُواطن الذي ساند قيادته الحكيمة في كل الإجراءات، إيماناً منه بأنَّه- أي المواطن- شريك أساسي في التنمية وداعم رئيسي لمسيرة النهضة المباركة التي قامت من أجله وجعلته الغاية والهدف.

مشروع توصيل الغاز الى الدقم.JPG
ولذلك عندما نُوجه بوصلة الاهتمام نحو الدقم فهذا لا يعني إغفال التنمية في مختلف أنحاء عُماننا الحبيبة، بل إننا نُسلط مزيداً من الضوء من أجل لفت الانتباه إلى النقاط التالية:

أولًا: تنامي الأهمية الاستراتيجية للدقم في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الحالية.

ثانيًا: تداعيات التوترات التجارية وتأثير ذلك على حركة الملاحة وسلاسل التوريد والإمداد.

ثالثًا: الثقة العالمية التي تتمتع بها السلطنة على المستويات كافة، سياسياً واقتصادياً، والتي تدعم جهود جذب الاستثمارات.

رابعًا: البيئة الاقتصادية المواتية داخل المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، في ظل الحوافز والمزايا الاستثمارية، وكذلك ما تزخر به من مقومات رائدة.

 

 

والنقطة الأولى الخاصة بتنامي الأهمية الاستراتيجية للدقم تتضح بجلاء في ظل التحديات التي تواجه خطوط الملاحة العالمية التي تمر عبر المُحيط الهندي والخليج العربي، فموقعها الاستراتيجي الذي يتوسط طرق الملاحة يعزز من مقوماتها الاقتصادية القائمة، علاوة على وقوع الدقم خارج مضيق هرمز الذي مثّل خلال الآونة الأخيرة نقطة توتر في حركة الملاحة العالمية. ورغم ذلك، نقول إنَّ الأهمية الاستراتيجية للدقم قائمة بالفعل حتى قبل أن يقع عليها الاختيار السامي قبل سنوات لتكون مدينة المُستقبل وانطلاقة حقيقية نحو تفعيل خطط التنويع الاقتصادي ودعم المشروعات اللوجستية، فهي منذ أمد بعيد موقع استراتيجي لا مثيل له على المحيط الهندي، تتوسط الطرق الملاحية بين آسيا وأفريقيا، وهي أيضًا محور ارتكاز لحركة التجارة البحرية في الوقت الراهن. ولا أدل على ذلك من الوثائق والكتب التي تروي الأهمية الاستراتيجية لعمان بشكل عام والدقم على نحو خاص، ففي كتابه الشهير "رياح موسمية"، يُشير الكاتب روبرت كابلان إلى الأهمية الكبرى للدقم في المحيط الهندي، سواء بالنسبة لحركة التجارة وقدرة هذه المدينة على استقطاب أكبر السفن من خلال مينائها الضخم، أو عبر الموقع الاستراتيجي الذي يخدم الكثير من الجوانب، ويعزز الثقل السياسي والدبلوماسي للسلطنة كدولة محورية في هذه المنطقة. وهنا أود أن أشير إلى ما يتمتع به ميناء الدُّقم من مميزات وكذلك الحوض الجاف، الذي يُعد أحد أكبر المرافق المتخصصة في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، ويتمتع بقدرات متقدمة تؤهله لمنافسة أكبر الموانئ.



الدقم مدينة المستقبل.JPG
 

التجارة العالمية

وهذا ينقلنا إلى بُعد آخر متمثل في التغير الواضح في مسارات التجارة العالمية وتأثيرات الحرب التجارية على مستقبل التجارة الحرة، ففي ظل التعقيدات التجارية وحالة التوتر في العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، يُمكن النظر إلى الدقم على أنَّها الميناء الحيوي القادر على استقبال السفن بأنواعها المُختلفة، ومن ثمَّ تنزيل ونقل البضائع المحمولة على ظهور هذه السفن، وبالتالي بناء طرق تجارية جديدة، تستفيد من سلاسل التوريد والإمداد التي ستنشأ في ظل هذه المُتغيرات. ويتماشى ذلك مع جهود السلطنة الرامية إلى تعظيم المردود الاقتصادي للقطاع اللوجستي، والاستفادة من شبكة الطرق المتكاملة التي تربط محافظات السلطنة مع أكبر الموانئ، ومنها ميناء الدقم. نقول ذلك وقد أوشك طريق أدم ثمريت على الانتهاء وفق أعلى معايير الجودة والسلامة المرورية، وكذلك طريق الباطنة الساحلي، وطريق الشرقية السريع، وغيرها من منظومة الطرق العملاقة التي أحدثت وستُحدث طفرة تنموية تعود بالنفع على اقتصادنا الوطني وتُحقق الفائدة المرجوة للمواطن. ومن هنا تتضح لنا النقطة الثانية الخاصة بتداعيات التوترات التجارية وتأثير ذلك على حركة الملاحة وسلاسل التوريد والإمداد.

علاقات دولية متينة

النقطة الثالثة التي أتطرق إليها هي الثقة العالمية التي تتمتع بها السلطنة على مُختلف الجوانب، وخاصة الجانب السياسي والاقتصادي، فسياسيًا تحظى السلطنة بمكانة مرموقة بين دول العالم ولدى مُختلف المنظمات الدولية، بفضل نهج الحياد الإيجابي الذي تتبعه السلطنة في ظل الرؤية الثاقبة للقيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- والتي أسهمت بفعالية في إرساء أسس السلام في المنطقة وتجنيبها الكثير من الويلات خلال العقود الماضية، علاوة على دور السلطنة الرائد في تقريب وجهات النَّظر وفتح المجال أمام أطراف أي صراع للتشاور والتفاوض، الأمر الذي رسَّخ الصورة الذهنية لدى المُجتمع الدولي عن السلطنة، واستحقت عن جدارة أسمى الإشادات في الحيادية والنزاهة، وأسهم ذلك أيضًا في بناء علاقات دولية متينة مع مُختلف دول العالم، وخاصة الدول العظمى، فعلاقتنا مثلاً مع الولايات المتحدة والصين تاريخية ومُتجذرة، وحققت العديد من الطفرات والتَّقدم، ونجحت السلطنة بفضل القيادة الحكيمة لجلالة السُّلطان المعظم- أيده الله- في بناء جسور تعاون وشراكة استراتيجية مع هاتين القوتين العظميين، ليس فقط على مستوى الاقتصاد والسياسة، بل على المستوى الثقافي والمعرفي والتنموي. ولقد عزَّز هذه المكانة المرموقة ما حققته السلطنة من نمو اقتصادي انعكس في مسار التنمية الشاملة التي عمَّت ربوع البلاد، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا، فأينما نولي وجوهنا شطر أيّ ولاية أو نيابة نرى بوضوح حجم التنمية المُتحققة، وما وصلت إليه هذه المناطق من تقدم ورخاء، أثرا بصورة إيجابية ومباشرة على حياة المواطن، وحققا ما يصبو إليه من أهداف وتطلعات في معيشة أفضل.


الحوض الجاف مرفق عالمي

مزايا وتسهيلات

أما رابع النقاط التي أبرز من خلالها الأهمية الحقيقية للدقم، فهي البيئة الاقتصادية المواتية داخل المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، في ظل ما يتوافر فيها من حوافز ومزايا استثمارية، تستقطب الاستثمارات، بشقيها: الوطني والأجنبي، إلى جانب ما تزخر به الدُّقم من مقومات طبيعية تدعم المشروعات التعدينية والنفطية والسمكية ومشروعات التصنيع بشكل عام.

فالدُّقم تُقدم تسهيلات غير مسبوقة على مستوى السلطنة بأكملها من حيث الحوافز والامتيازات المقدمة للمستثمرين، ولذلك وجدنا كيف أقبل المستثمرون من الصين ومن الكويت، علاوة على المساعي المتواصلة لهيئة المنطقة الاقتصادية الخاصة لجذب مستثمرين إليها، وتجلى ذلك في الحملة الأخيرة التي نظمتها الهيئة ووصلت إلى أقصى بقاع الأرض، حيث روجت للاستثمارات في اليابان والهند وكوريا والصين وروسيا، وقد لاقت هذه الحملة صدى واسعاً في الأوساط التجارية والاستثمارية بهذه الدول، وخرجت بنتائج إيجابية في مُقدمتها تعريف مجتمع الاستثمار في هذه الدول بالدُّقم وأهميتها الاستراتيجية والحوافز التي تقدمها.

ولذلك نخلص إلى نتيجة مفادها أنَّ الدقم هي مستقبل الاستثمارات الحقيقية في السلطنة، وهي بوابة عُمان إلى العالم، ومن خلالها ستزدهر التنمية الاقتصادية وتتواصل بكامل طاقتها، بما يحقق التوازن بين النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، على اعتبار أنَّ كلاهما يدفع بعضه البعض، وسيتحقق من وراء ذلك توفير الآلاف من فرص العمل لشبابنا وإحداث نهضة عمرانية وتنموية كبيرة، وتعزيز مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة خلال السنوات المقبلة.

والمتأمل في هذه النتائج يجد أنَّها الأهداف التي تنشدها الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، والتي سيبدأ تنفيذها بعد أشهر قليلة، والتي تضع حزمة من الطموحات والغايات التي بتحققها ستنتقل عُمان إلى مصاف الدول المتقدمة والأعلى تصنيفًا في الكثير من القطاعات، ومن بينها القطاع اللوجستي، الذي تسهم الدقم بدور محوري وفعَّال فيه، كما ذكرنا سالفًا.

تكاتف الجهود

هنا يجب أن نُشير بوضوح إلى ضرورة تكاتف الجهود لإنجاح هذا المشروع العظيم، والذي أنفقت عليه الحكومة حتى الآن ما يقرب من 3 مليارات ريال على البنى الأساسية من طرق ومشاريع طاقة ومياه وأرصفة بحرية وموانئ، كل ذلك يدعم الرؤية المستقبلية لهذه المدينة بأن تكون قاطرة تنموية لعُمان بأكملها، أن تكون الدقم نقطة جذب استثمارية ليس فقط لرؤوس الأموال الأجنبية، وصناديق الاستثمار الدولية، بل أيضًا القطاع الخاص العماني، الشركات الوطنية في بلادنا، كلها مدعوة للإسهام في تنمية الدقم والاستفادة من المقومات والمزايا الاستثمارية.. على القطاع الخاص أن يُبادر بكل جدٍ وسرعة لكي يستفيد من هذه المميزات، حتى تمضي الاستثمارات الوطنية جنبًا إلى جنب في طريق موازٍ للاستثمارات الأجنبية.

وكذلك الدعوة مفتوحة إلى شبابنا من الباحثين عن عمل من كل المُحافظات، أن يهبوا إلى الدقم ويبحثوا هناك عن فرص العمل الواعدة التي ستمنحهم مستقبلاً مشرقًا بإذن الله، وأن ينطلقوا بكل طاقاتهم إلى العمل ويشمروا عن سواعد الجد، فلن يبني الدقم سوى أبناء هذا الوطن، فمهما نمت الاستثمارات الأجنبية، سيكون للمواطن العماني الكلمة الأولى والأخيرة، المواطن هو الذي سيُعمِّر الأرض ويبني المشروعات. علينا جميعًا كمواطنين أن ندعم التنمية في الدُّقم، أن نلتفت إلى القطاع السياحي هناك، خاصة وأنَّ هذه المدينة تشهد اعتدالاً كبيراً في درجات الحرارة التي تصل في شهور الصيف إلى ما دون الثماني وعشرين درجة مئوية، فما أجمل ذلك من طقس!

وأخيراً.. إنني أدعو كل عُماني وعُمانية سواء كان مواطناً عادياً أو مستثمراً، أن يتوجه إلى الدقم ويطَّلع على ما تزخر به من مقومات ويتعرَّف على ما يتوافر فيها من مُميزات وتسهيلات استثمارية على أرض الواقع، لا أن يكتفي بمُتابعة أخبارها عبر الوسائل المُعتادة، علينا أن نكون جميعاً مروجين للاستثمار في الدُّقم وداعمين لمسيرة التنمية هناك، فهي مشروع الوطن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهي بوابة عُمان إلى العالم، من خلالها يُمكن أن تشكل بلادنا نقطة مركزية لحركة التجارة العالمية، كما كنَّا في الماضي عندما سطَّر أجدادنا أسياد البحار تاريخًا ناصعًا دونته كتب التأريخ حول العالم.. فهلا نبدأ سوياً كتابة التاريخ الجديد.