حل الأزمات على طريقة جحا

 

 

د. سيف المعمري

ما عرفناه عن جحا أنه رجل النوادر المضحكة والمواقف الطريفة التي تجعل من يسمع عنها ينفجر ضحكا؛ وبالتالي فهو في نظر الكثير مُهرِّجا وفق ما روي عنه، فهل يعقل أن يكون هذا المهرج مستشارا لأحد؟ وما مصير من قرر أن يستثير جحا، ويلجأ إليه لكي يُرشده للخروج من حاله البائس، أو يساعده في حل مشكلته المعقدة والأزلية؟ لا شكَّ أن فكركم أيُّها القراء يرى أن هذا ضَربا من ضرب الجنون لا يقوم به عاقل، ولكنَّ ذلك حدث بالفعل، ولجأ إلى جحا لحل مشكلة معقدة، وقام بحلها بطريقة لا تزال توظف في حل الإشكاليات في بلداننا العربية.

وحتى نفهم علاقة القصة بالواقع العربي، دعونا بداية نسردها، ونتأمل في حكمة هذا المهرج؛ حيث يُروى أنَّ رجلًا جاءه يوما شاكيا من سوء أحواله وفقره الذي نتج عنه أنه غير قادر على تأمين سكن يتسع له وأفراد عائلته، فهو وزوجته وأمه وحماته وأطفاله الستة يعيشون في غرفة واحدة ضيقة، لا تُتيح لهم تقاسم المساحات والهواء الذي بداخلها، وبادر جحا بالسؤال الذي يسأله الجميع ممن هم في هذه الحال؛ وهو: ماذا نفعل لكي نخرج من هذه الإشكالية؟ ماذا نفعل لنُحسن من أحوالنا ومستوى حياتنا؟ ولم يتوانَ جحا في التفكير في مواجهة هذا السؤال الصعب، الذي تسأله اليوم شعوب وحكومات وليس هذا الرجل فقط، ويظلون لأجيال غير قادرين على معرفة ماذا يمكنهم أن يفعلوا لكي يخرجوا من ضيق الأزمات والتأخر والتخلف، كي ينتقلوا إلى رحاب التقدم والنهضة والانتعاش والرخاء. وقد أجاب جحا فورا هذا الرجل دون أن يُبرم معه عقدا حول تكلفة الاستشارة كما يفعل كثيرٌ من الخبراء والمستشارين الذين يغرقون دولًا كثيرة باستشاراتهم المدفوعة بالآلاف، وأحيانا بالملايين، دون أن يساعدوها في حل مشكلاتها، قال جحا لهذا الرجل: اذهب واشترِ حِمارا، واجعله يعيش معكم في نفس الغرفة، وأخبرني بعد يومين هل بَعَث هذا الحل بعض الارتياح لك؟

امتثلَ هذا الرجل لهذه الاستشارة الغريبة جدا؛ وأحضر الحمار ووضعه في الغرفة معهم، وظل طوال الليل ينهق مما أطار النوم منه؛ ولم تعد مشكلته المساحة الضيقة إنما صوت الحمار المزعج؛ فسارع إلى جحا، وقال له إن الوضع يزداد سوءاً، وبدلا من أن يُطالبه بإخراج الحمار؛ قال له: اذهب واشترِ دجاجا، واجعله يعيش معكم في نفس الغرفة. وعاد الرجل بعد يومين بنفس الإجابة، وهي: "الوضع يزداد سوءا"، وواصل جحا تقديم الحلول، ووهذه المرة قال له: "جرب أن تشتري خروفا ليكون مع الحمار والدجاج في نفس الغرفة". ففعل الرجل، وعاد بعد المدة المقررة يصرخ في وجه جحا: ماذا فعلت بي إنَّ الوضع لا يطاق، كُنت في مشكلة وأصبحت في أربع مشكلات، لقد كرهتُ حياتي ولا أمل لي في أن تتحسن"!! وهل ستتحسَّن حياة من جعل جحا مستشارا له في حل مشكلاته؟

لكنَّ جحا لم يكترث لكل ذلك، وواصل تقديم استشاراته لحل مشكلات هذا الرجل؛ وقال له هذه المرة: قم ببيع الحمار وعد لي بعد يومين لتخبرني عن وضعك؛ ففعل وقال له: إن الوضع بدأ يتحسن، فرد عليه جحا: هذه بُشرى خير لك؛ إذن اذهب لبيع الخروف وأخبرني هل أصبحت الأمور أفضل. ففعل، وجاءه بعد يومين يقول له إن الأمور أحسن فأحسن؛ هنا طلب منه جحا بيع الدجاج، ففعل، وجاء ليقول لجحا: الآن أصبحت في أفضل حال. ناسيا المشكلة الرئيسية والحقيقية التي كان يعاني منها؛ لأنه أوقع في إشكاليات أخرى جعلته يرى في الحالة التي كان عليها واقعا جميلا، مُقارنة بالواقع الطارئ لحل هذه الإشكالية.

هذه قصة فيها كثير من الدلالات التي ينبغي أن نتأملها؛ من أجل فهم الطريقة التي تُحل بها الأزمات التي تواجهنا؛ حيث يتم خلق مشكلات جديدة للناس ينشغلون بها وتجعلهم يتنازلون عن مشكلاتهم الأصلية في سبيل التخلص من هذه الإشكاليات؛ فحين رفعت تسعيرة الوقود شعر البعض بضيق شديد؛ لأن ذلك سيؤثر على حياتهم وموازناتهم، ولكن قيل لهم إن الأمر لن يتعدى حاجزا معينا، وأنه إن لم يحدث ذلك قد يطال الأمر جوانب كثيرة مالية؛ فنسي الناس هذه الضيق تجنبا لضيق أكبر؛ وحين طالب الناس بترقياتهم نتيجة التطورات المالية الجديدة، قيل لهم هل الأفضل ترقياتكم أم توظيف أبنائكم، فلم تتحرك الترقيات ولم يتم توظيف الأبناء نظرا لزيادة أعداد الباحثين عن وظائف.

تتكرَّر الأزمات والحلول هي وفق منهجية جحا مع هذا الرجل؛ حيث عمل على تأزيم واقعه ليجعله يصل إلى قناعة بأنه طالما لا يوجد الحمار والخروف والدجاج معه في نفس الغرفة أو في نفس الطريق، أو في نفس المؤسسة أو في نفس الحارة، فالأمور في أفضل حال. إلا أنَّ الأمور في الواقع لا يمكن أن تتحسن بإقناع الناس بالرضوخ للواقع الذي يعيشونه؛ والتخلي عن التطلع لحلول للمشكلات والقضايا التي يعانون منها لمدى طويل؛ لأنَّ ذلك يعطل المجتمعات وحراكها لبناء واقع أفضل، ويجعل من حقوق الناس واحتياجاتهم عُرضة لحل غير منطقي ولا عادل، خاصة في ظل تباين أوضاعهم، فحين تطلب من صاحب خمس شركات التخلي عن مشروع معين، ليس كما تفاوض مراسلا للتخلي عن ترقيته وهو يتسلم راتبا زهيدا، ومطلوب منه أن يؤدي كل الرسوم التي يؤديها الجميع ممن هم أعلى دخلا منه؛ لذا نأمل أن لا يكون جحا مستشارا لأي أحد لأنه سوف يتحايل علينا بإحضار الحمار والدجاج والخروف، وحتى لو قمنا ببيعهم فذلك لن يحسن الوضع الذي نحن أدرى به.