د. عبدالله باحجاج
كلما نمعن التأمل في هذه القضية، ننظر إليها بمرئيات مختلفة، وقد تناولناها في مقالات سابقة، لكن تفكيرنا فيها هذه المرة سيكون مختلفا في جوهره بعد أن اقتربنا منها إثر تواصل مجموعة منهم منّا أمس الأول، فهي قضيّة تتجدد مفاهيمها، وتتوسّع النظرة إليها طالما ظلّت جامدة، وجمودها حتى الآن يثير الكثير من التساؤلات حول نتائج تدخلات مؤسسة مجلس الشورى عبر رئيسها أو بعض فاعليها، فكيف لم تنجح حتى الآن في تحريك هذا الجمود؟
وقد اهتدينا بعد أعمال التأمل الجديد فيها إلى ربطها بمفهوم المواطنة بحيث تصبح- أي المواطنة- معيار حكمنا على هذه القضية، ففي البداية علينا تبديد المفهوم الخاطئ عن المواطنة، فهي لا تعني- حسب جوهرها المتفق عليه- حب الوطن وحسب، فهذا التعريف مرتبط بمصطلح آخر وهو الوطنية، فالمواطنة- كما وجدناها في التعريفات المجمع عليها- أنّها الصفة التي تُمنح للمواطن والتي تتحدد بموجبها عدة أمور منها؛ الحقوق والواجبات.
ومن هنا فإنّ المواطنة هي انتماء المواطن لوطنه الذي يحبه، واستعداده للتضحية بحياته من أجله، وبالتالي، يكون لهذا المواطن حقوق وعليه واجبات لا تتوفر لغيره ممن لا ينتمون لوطنه من خلال رابطة الوطنية، وهنا نتساءل: هل يُعامل محاضرو الكليات التقنية من منظور المواطنة أم من منظور مساواتهم بالوافدين؟
أصبحت قضيتهم تجارة رابحة ومضمونة للكثير من الشركات الربحية، يستوي التعامل فيها بين المواطن والوافد في الحقوق بما فيها المالية على وجه الخصوص، وهذا مساس بجوهر المواطنة، وهنا تكمن المفارقة، ففي الوقت الذي ينبغي أن نعزز فيه مفهوم المواطنة داخل المجتمع، ونعمل الفكر على صناعة برامج مبتكرة لتحصين المواطنة من التحولات الكبرى ومن حالات الاختراقات الأجنبية؛ نؤسس ثغرات في بنية المواطنة عند شريحة متعلمة تقود صناعة تأسيس وتأطير التكوين الأكاديمي لنحو 40% من مخرجات الدبلوم العام في البلاد "الثانوية العامة سابقا" فكيف ستصنع الأجيال بنفسية محطمة؟
وللأسف قضيّتهم قد تشعّبت، وتداخلت فيها الكثير من المسائل، ولم يعد يرى فيها الأصل من الفرع، لإغراق المناقشات والرؤى في الكليات على حساب الجزئية الأهم، والأهم هي التي ينبغي أن ننتصر لها هنا، وغيرها، هي مجرد تحصيل حاصل فقط، فما هو الأصل هنا؟ هو شل يد شركات التوظيف عن المتاجرة بالمواطن، فلا ينبغي السماح لها بأن يكون المواطن مادة ربحها أبدا، فهناك 4 شركات تقريبا، تتعاقد معها وزارة القوى العاملة عن طريق المناقصات لتأمين كلياتها من الأطر والكوادر المؤهلة من الداخل والخارج، فما دام هناك مواطن مؤهل لمهنة التدريس، فلا ينبغي أن تتاجر به هذه الشركات، فمن أبسط حقوقه توظيفه أو التعاقد معه مباشرة، وبنفس المبالغ المالية التي تمنح للشركات الربحية، لأنه مواطن، ومواطنته تلزم التعامل معه بصورة مختلفة عن الوافد.
ومواطنته تحملنا على منحه الراتب كاملا، وليس شراكة مع شركة ربحية، وقد كشف لنا أحد المحاضرين عن أكثر من 700 ريال تدخل إلى جيب كل شركة عن كل محاضر ودون أن تقدم لهم مقابل ذلك أية امتيازات أو حوافز يكون من شأنها الارتقاء بمستواهم المهني أو الوظيفي. إنهم مواطنون، والمواطنة استحقاق له حقوق أصيلة وليست فرعية، وإلا فما معنى المواطنة إذا كان المواطن يُستغل في رزقه، أو يتساوى في حقوقه مع نظيره الأجنبي؟
ومواطنته تلزمنا بالتعاقد الثابت معه وليس عبر عقود سنويّة بين المحاضرين والشركات، يقتطع بموجبها مبالغ كبيرة لصالح الشركات. وكل الحجج التي تقدم لشرعنة العقود السنوية غير مقبولة تماما من منظور المواطنة، وكل قانون يمس منظومة المواطنة ينبغي أن يتغير، فهناك مثلا حجية أنّ بعض المحاضرين العمانيين متقاعدين من الجامعات والكليات، ولا يسمح القانون بالتعاقد معهم مباشرة، وهنا المفارقة، فلماذا لا يتغيّر هذا القانون عوضا عن الالتفاف عليه؟ وهذا الالتفاف يفسّر على نطاق واسع، بأنّ وراءه عملية استنفاع مستهدفة، متمثلة في تلك الشركات، وهذا الالتفاف يفسر كذلك أن وراءه اعتماد وزارة القوى العاملة على غيرها. ومهما يكن من خلفيات المحاضرين- كلهم أو بعضهم- فما يضير الوزارة إذا ما لجأ المواطن بجهده وعرقه في تطوير وتحسين دخله؟ إلا إذا كانت ترى أن هذا التحسين ينبغي أن يشاركه فيه الغير، مما تبدو لنا المسألة بمثابة كعكة ينبغي أن تتقاسم بين منتفعين.. هذا التصوّر الأخير مفترض من منطوق الحجة الرسمية، وتعززه عمليا، العقود السنوية بين الشركات والمحاضرين العمانيين.
وكيف إذا ما علمنا بوضعيّة المتقاعد المالية، فبمجرد إحالتهم للتقاعد، يمنحون مبالغ محدودة جدا، ويقتطع منهم أكثر من نصف مرتباتهم، لذلك ينبغي أن تفتح لهم كل الأبواب لا أنصافها، وألا يشاركهم فيها مستنفع داخلي ولا خارجي، فإعادة تدوير النخب المتعلمة بعد تقاعدها لشغل وظائف لا يمكن شغلها الا بخبراتها ومهنيتها نجده يدخل في صلب المهام المؤسساتية الجديدة لمواجهة تحديات عصر الضرائب والرسوم والخدمات المدفوعة الثمن.
والحجية الثانية لوزارة القوى العاملة في محاولتها لشرعنة العقود المؤقتة أنّ بعض المحاضرين العمانيين هم مستقيلون من جهات حكومية أخرى وغير حكومية، وردنا عليها هو الرد السابق على الحجة الأولى، فإتاحة الفرصة للمواطنين لكي يحسنوا من مستوى معيشتهم في ظل موجة الغلاء الشاملة، خاصة وأن هناك إمكانية متاحة لهم بحكم خبراتهم السابقة، مسألة مشروعة، ويستوجبها مفهوم المواطنة المعاصرة.
فكل من يرفع رأسه قليلا من معمعة هذه الضرائب ينبغي أن يشكل إنجازا مؤسساتيا، وينبغي أن يكون ناتجا عن وعي بالعصر وتحدياته، وانعكاساته على المواطنة، وهذا المقال من بين أهم استهدافاته إنتاج هذا النوع من الوعي عبر إعادة تصويب الفكر لقضية محاضري الكليات التقنية السبعة، واعتبار ذلك نموذجا ينبغي أن تقتدي به كل مؤسسات الدولة في أدوارها الجديدة.
وكل التحديات الكبيرة التي تواجه المواطنة المعاصرة، تحتم على الأطر والكوادر الحكومية والعمومية تطوير وإعادة تأهيل فكرها فورا، لذلك نتوجه لوزارة القوى العاملة بالقول إنّ البحث وتوفير المحاضرين للكليات التقنية من مسؤوليتها الأساسية، ولا ينبغي تفويتها للشركات التي يكون جل همها الربح على حساب المضامين الكبرى، ومن بينها المواطنة، وأن التعاقد مع المحاضرين العمانيين سواء كانوا متقاعدين أو باحثين عن عمل أو مستقلين ينبغي أن يتم مباشرة معهم وبالراتب الكاملة المخصصة لهم، وهي من مستلزمات المواطنة، وإذا كانت هناك من عوائق قانونية فينبغي العمل على إزالتها سريعا لأنّها تقف ضد مساعي المواطنين لتحسين مستوى معيشتهم، فالقانون ليس مقدسا في ذاته وإنما في غاياته، وغاياته تستهدف مصالح المجتمع والدولة، من هنا ينبغي أن تنتفي كل العوامل القانونية التي يتم الدفع بها انتصارًا لمواطنة المواطن. فمتى سنسمع إغلاق هذا الملف لصالح المواطن من ثلاث رؤى أساسية تحتمها الوطنية في استحقاقاتها العاجلة وهى، الثبيت والإحلال والتعمين؟ قريبًا سنفتح هذه الثلاثيات من منظور نتائج جهود مجلس الشورى في هذه القضية المفتوحة.