عُمانُ تنتصرُ لمبادئها

 

د. صالح الفهدي

إنّ حصافة الدول أو اندفاعها تظهرُ في الأزمات الدولية، التي تدقُّ لأجلها طبول الحرب، وتحشدُ لها الذرائع والمبررات قصد تكوين ائتلاف دوليّ لاضفاء مصداقية أُممية لما يسمى بـ "الأُسرة الدولية" على شقّ دولة ما لعصا الطاعة أكثر منه لأجل تقوية العدّة والعتاد العسكريّين.

وعُمان نصيرةُ سلم، لا معينةُ حرب، هذا تاريخها المعروف الذي تشهدُ به وقائعُ التاريخ المختلفة، لا تجنحُ بها عاطفة لاحتراب، ولا يزيغُ بها هوى لاختصام، إنّما تتّبعُ سياسة ذات مبادئ مكينة، وقيم رصينة، فالحقُّ أمامها واضح وضوح الشمس، ومنهُ أنّ كل دولة تشكلّ وجودا استراتيجيا لا يمكنُ تغييره، إنّما يمكنُ تغيير السياسات التي تميلُ نحو الوفاق وتحقيق المصالح المشتركة دون مسّ بالسيادة، أو تدخُّل في الشؤون الداخلية.

عمانُ ميّالة إلى التوافق بقدر ما تمتدُّ أياديها، وتسعُ لذلك صدورها، وهي في سبيل ذلك لا تتضعضع عزيمتها، ولا تتراجعُ سياستها، لأنّها تستقي من المنهج الرّباني الذي سنّهُ للإنسان؛ منهجُ إعمار الأرض لا خرابها، استلهاما لقول الحقّ سبحانه: "ادْعُوا ربّكُمْ تضرُّعا وخُفْية إنّهُ لا يُحبُّ الْمُعْتدين، ولا تُفْسدُوا في الأرض بعد إصلاحها وادعُوهُ خوفا وطمعا إنّ رحْمتَ اللّه قريب مّن الْمُحْسنين (الأعراف:55/56)" وقد ردّد المقرئُ في افتتاح سلطان البلاد لمجلس عُمان ثلاث مرّات قوله تعالى "ولا تفْسدُوا في الأرض بعد إصلاحها" وهي رسالة للداخل والخارج تأكيدا على مرتكزات النهج العماني في تجنُّب الفساد في الأرض.

وما الحروبُ إلاّ إعلان عن هزيمة مسبقة لطرفيها قبل أن يخوضا معتركها، لأن الجميع خاسر فيها، ولا يمكنُ لحرب أن تأتي بنتائج رابحة إلاّ أن تكون دفاعا عن حياض الوطن، ومقدساته، ومكتسباته، ولا شكّ بأنّ الحكمة في التعاطي مع الأزمات ودرء مخاطرها هي النصرُ في حدّ ذاته.

لهذا فإنّ عمان تنتصرُ لمبادئها في مواقفها لأنها مبنيّة على النوايا السلميّة، يقول جلالة السلطان قابوس: "‏إنّ السّلام مذهب آمنا به، ومطلب نسعى إلى تحقيقه دون تفريط أو إفراط، مصداقا لقوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).

وما أعظمه من ربح، ذلك الذي يريدُ للسّلم أن يعم، وأن تهنأ به البشرية، وتزدهرُ أحلامها، وتحقق طموحاتها باستتبابه، أمّا القوّة فهي كما أقولُ دائما نسبية فما أراهُ أنا قوّة تراهُ أنت ضعف، وما تراهُ أنت قوة أراهُ أنا ضعف، فكلُّ ينظرُ للأمر بحسب القيم التي يرتكزُ عليها، والمبادئ التي نشأ عليها، والمفاهيم التي آمن بها، ولا غرو أن عمان ترى في السّلم قوة وذلك يتوافق مع الحديث الشريف "ليس الشديد بالصرعة، إنّما الشديد من يمسك نفسه عند الغضب"(رواه البخاري)، ويتوافق مع التوجيه النبوي الرشيد "كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(رواه مسلم).

ولسنا هنا في معرض تأصيل الروح السّلمية لعمان فهي جليّةُ الشواهد، ناصعةُ البراهين منذ القدم بشهادة النبي الأكرم عليه أفضل الصلاة والسّلام حينما قال لأحد الصحابة " لو أنّ أهل عُمان أتيت ما سبُّوك ولا ضربُوك"(رواه مسلم)، إنّما الحديثُ عن نهج راسخ يسيءُ فهمه من لا يعرفُ أُصوله، ولا يتتبع مصادره، ولا يسبرُ جذوره، يقول د. هادي حسن في كتابه "فلسفة النهضة: المبادئ، الأهداف":" في تحليلنا لبُنى فلسفة النهضة العمانية ومرتكزاتها الأساسية نصل إلى أن شعار "نعم للسلام.. لا للحرب" ما دام تجنّب الحرب ممكنا، هو الشعار العماني الأصيل الذي أعلنه جلالة السلطان المعظم في صياغات سياسية عديدة، في جميع نصوص النطق السامي، إذ أننا لا نكاد نجد خطابا ساميا واحدا إلا وهو يتضمّن الكلام على الأمن والإيمان والطمأنينة والسلام والتعايش السلمي، ويدعو إلى الحوار والالتقاء والتفاهم بين الشعوب والأمم لإقامة السلام العادل والشامل في جميع أرجاء المعمورة، والقضاء على بؤر التوتر، والتعامل مع التطرف والإرهاب بما يزيد من وتائر التعاون الدولي، ويحفظ وحدة المجتمع الداخلي لكل دولة".

هذا النهج السّلمي لا يمكنُ أن يُعرّض للنقيض، أو يُضحّى به، لأنه المبدأ الرابح، الذي لا يتخاصمُ فيه عاقلان، وهكذا كان تأكيدُ الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية يوسف بن علوي عليه بالقول: "الخلافات لا تحلُّ إلا بالسّلم"، ولا شكّ بأن ما لا يظهرُ في كيفية حلّ الخلافات بالسّلم هو النوايا الصادقة الحسنة التي تؤثر في مسار المفاوضات ونتائج الحلول، تمثُّلا بقول الحقّ سبحانه في النوايا "إن يُريدا إصلاحًا يُوفّقِ اللّهُ بيْنهُما إنَّ اللّه كان عليمًا خبيرًا"(النساء/35).

تنتصرُ عمان لمبادئها، وأبرزها في هذا الصعيد مبدأ السلام الذي هو عنصر البناء والنماء والعطاء، لكنّه كما يصفه باني عمان العصريّة "سلامُ الأقوياء"؛ أي ذلك السلام الذي لا يصدر عن ضعف وذلة، ولا يكون عن ارتكاس ومهانة، بل سلام القويّ الأشم، الذي يتجمّل بقول "العفو عند المقدرة".

تنتصرُ عمان لمبادئها لأنها ترى سناء الحقّ باهرا وضيئا فلا تغشّيه الأهواءُ، ولا تخالطه الشوائب، فتجعل الحقّ هاديها ونصيرها إلى ترسيخ السلم، وإحقاق العدل. أمّا من يحكمُ على سياسة عمان فعمانُ لا تختزلُ في صورة أو في عبارة، أو في موقف، وإنّما عمانُ ثقافة راسخة، وهُوية ممتدة، وتاريخ عريق، وكلُّ ذلك يشكّل جبلا سامقا يحق تشبيهه بوصف امرؤ القيس لجبل ثَبِير قائلا: كَأَنَّ ثَبِيراً فيِ عَرَانِينِ وَبْلِهِ/ كَبِيرُ أُنَاسٍ فيِ بِجَادٍ مُزَمَّلِ، حيث وصف الجبل الأشمّ بكبير أُناس لابسا كساءه، هذه الصورة التي تُماثلُ عمان في قدم تاريخها، ونفاسة قيمها، وأصالة إرثها، ولا يجب أن ينظر لها بصورة غير هذه الصورة.