السياسة الأمريكية تجاه إيران.. من السادية إلى المازوخية

 

 

علي المعشني

السَّادية في تعريف علم النفس هي التلذُّذ بتعذيب الآخرين أو آلامهم وعذاباتهم، أما المازوخية فهي التلذُّذ بتعذيب الذات وآلامها وعذابها. وبما أنَّ العلوم الإنسانية في الغالب الأعم ذات طبيعة تكامل عضوي -إلى حدٍّ كبير- فلم أجد من توصيف أقرب إلى السادية والمازوخية في مراحل وأطوار السياسة الأمريكية تجاة جمهورية إيران الإسلامية منذ قيام الثورة عام 1979.

الغرب شغوف بكل جديد بطبعه، ويبحث عن المثير في حياته القلقة دائمًا، ليخرج عن الرتابة والمألوف حتى وإن كان الجديد مؤلمًا وضارًّا لهم في كثير من الأحيان، وقد تفرَّدت أمريكا لاحقًا بالسعي نحو الموضة والتقاليع الحميدة منها والغريبة، لتُصبح طباعًا وصفات راسخة لديهم؛ لهذا لم يتورَّع الأمريكان يومًا عن توظيف أي تجربة أو نظرية من أي علم إنساني أو تطبيقي في سبيل تحقيق مصالحهم والحفاظ على هيبتهم وترهيب الآخرين منهم. وبما أن الأمريكان لا يفكرون بل يجربون حتى يفشلون -حسب تعريف الزعيم البريطاني تشرشل لهم- فإنهم ما زالوا يعيدون إنتاج أنفسهم في كل شيء رغم التحولات الكبيرة من حولهم؛ طمعًا في تحقيق النجاح في كلِّ مرة، وعبر تدوير ذات الفشل وأدواته وتجربته مرارًا وتكرارًا دون ملل أو مراجعة؛ فقط كون أمريكا العالم الجديد ونهاية التاريخ وصدام الحضارات وغيرها من الألقاب التي يرُوق للأمريكان ابتكارها لأنفسهم وتصديقها.

في العام 1967م، تقاعد الجنرال اليهودي الفرنسي ديفيد جالولا، وهو بالمناسبة من مواليد مدينة صفاقس بتونس، وقرَّر الهجرة لأمريكا والاستقرار بها، وحمل معه كتابه الحاوي لتجربته العسكرية القتالية في الهند الصينية وتونس والجزائر، والذي أسماه "الحرب القذرة"، تلك الحرب التي لا تعرف مبدأ ولا تحمل أي قيمة أخلاقية سوى الانتصار على العدو بأي وسيلة كانت. وعرض جالولا مشروع كتابه على مؤسسة "راند" الأمريكية لنشره -وهي بالمناسبة الذراع التنظيرية لمؤسسة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"- فوقع الكتاب بيد الجنرال ديفيد بترايوس حينها، والذي أصبح لاحقًا قائدًا لهيئة الأركان المشتركة الأمريكية، وشاع اسمه في حروب أفغانستان والعراق؛ حيث أعجب بالكتاب وكتب له مقدمة بخط يده. الغريب أن الجنرال بترايوس -وبطبيعة العقلية الأمريكية المستنسخة- طبق الكتاب ونظريته المهزومة بحذافيرها في أفغانستان والعراق، ولم يستوعب أن الجنرال جالولا صاحب مشروع الكتاب والنظرية قد مني بهزائم مُنكرة في جميع البقاع التي مارس فيها حربه القذرة في الهند الصينية وتونس والجزائر وخرج منها مذمومًا مدحورًا، وأن الكتاب في مضمونه أصبح من العظات والمواعظ ومن أساطير الأولين.

أعاد الجنرال بترايوس نظرية الجنرال جالولا في حروبهم المعاصرة؛ فمني بخسائر نكراء على قاعدة "من لايقرأ التاريخ محكوم عليه بإعادة عثراته". الجنرال بترايوس ليس حالة فردية بل ظاهرة ثقافية وفكرية أمريكية خالصة، وهو في المجمل والمحصلة النهائية ابنٌ نجيب لأمريكا وثقافتها ونرجسيتها. الذين لا يعلمون بالمكونات الجذرية للعقل الأمريكي يُبهرهم كل شيء من أمريكا، إلى درجة اليقين بأنها القضاء والقدر الذي لا يُرد، بينما الراسخون في العلم يدركون مفاصل الضعف والقوة، ويتسلحون بسلاح الحق والإرادة والتاريخ.. فينتصرون.

المُتابع للسياسة الأمريكية تجاه إيران منذ عام الثورة 1979م وحتى اليوم، يتيقَّن باستحالة انتصار الأمريكي بأدواته وأساليبه القديمة على وقائع وأحداث من طراز القرن الـ21، فإيران اليوم لا يمكن الانتصار عليها بنظريات وأساليب تجاوزها الزمن وسخر منها وغادرها إلى غير رجعة؛ لهذا سار بعض العقلاء في الإدارة الأمريكية على هدي حكومات بلادهم إلى حلول ناجعة لكيفية التعامل مع شعوب المنطقة، ومنهم ما عُرف بلجنة بيكر/هاملتون، والتي أوصت بضرورة الاعتراف بالهزيمة في العراق، والانسحاب العاجل منها، والاعتراف بحيوية إيران ونفوذها، والتعامل مع قوتها ومصالح بجدية وندية؛ حيث طبَّق الرئيس جورج بوش الابن جزءًا من هذه التوصيات، ثم أتى خلفه أوباما ليعقد الاتفاق النووي الشهير مع إيران وبرعاية الكبار وألمانيا أي مجلس الأمن الدولي.

اليوم، تعود نظرية جالولا/ترامب مجددًا لتُطرب العقل الأمريكي الذي يجرِّب حتى يفشل، فتتحول السياسات الأمريكية بقدرة غباء سياسي موروث من السادية في التلذذ بحصار الشعوب وتجويعها وتدمير أوطانها والتنكيل بها -كما حدث في نموذج العراق الأليم- إلى المازوخية؛ حيث نرى مسرحيات التفجيرات الباهتة والتلذذ بقضم الأطراف وإنهاك من يسمون بالحلفاء وابتزازهم، بزعم تخويف إيران وإخضاعها للعودة إلى طاولة التفاوض مجددًا، لفسخ اتفاق رعاه وأقره مجلس الأمن الدولي!! الحقيقة المُرَّة أنَّ الأمريكان لم يفقدوا بوصلتهم وعقلهم فقط، بل فقدوا هيبتهم قبل كل ذلك، ولم يستوعبوا التحولات الكبرى من حولهم، وما زالوا يتعاملون مع أحداث اليوم بعقلية فرعونية غمرها طوفان التحولات وطواها النسيان، وهم في أمسِّ الحاجة إلى من يُسعفهم بقشة تنجيهم من الغرق، وسُلم يُنزلهم من على الشجرة.

-------------------------

قبل اللقاء: قرأنا كثيرًا عن انهيار الدول والأمم وزوال العروش، لكننا اليوم نشهد بالعين المُجردة كيف ينهار الكبار، ويتيتم الصغار ممن يعتقدون أن أمريكا من المنظرين!!

وبالشكر تدوم النعم...،