الحرب الباردة الثانية

حاتم الطائي

 

السياسات اليمينية والشعبوية أوقدت شعلة الحرب الباردة الثانية

معطيات الحرب الباردة الثانية تتجلى في التكنولوجيا والاقتصاد والتعاون الصيني الروسي

ولادة النظام العالمي الجديد- متعدد الأقطاب- يحقق النفع والمصالح لدول العالم

 

يمر العالم في الوقت الراهن بمرحلة تحول كبرى؛ فيما يتعلق بالنفوذ والسيادة، وتتغير السياسات والاستراتيجيات الداعمة لمثل هذا التحوّل أو ما نطلق عليه "المرحلة الانتقالية" من عالم القطب الأوحد وتمثله الولايات المتحدة الأمريكية إلى عالم متعدد الأقطاب؛ وفيه تدخل الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وروسيا بقوتها الاقتصادية والعسكرية، على خط المواجهة مع الولايات المتحدة، لتقاسم النفوذ العالمي وإعادة تشكيل خارطة الصراعات حول العالم.

وهذه المواجهة هي "حرب باردة ثانية"، ينطبق عليها ذات المفهوم الكلاسيكي للحرب الباردة، بما فيها "الحروب بالوكالة" المنتشرة في العالم الآن.. فعندما ننظر إلى العالم من حولنا وما يموج به من صراعات محتدمة نجد أنّها استنساخ لنموذج الحرب الباردة، وقد أوقدت السياسات اليمينية والشعبوية شعلة هذه الحرب، وكانت إحدى الشرارات القويّة الرسوم التي فرضتها الولايات المتحدة على البضائع والمنتجات الصينية، لتندلع حرب تجارية كانت أولى ضحايها شركة هواوي الصينية، التي تعرّضت ولا تزال تتعرض لسياسات تدميرية بلا شك، على الرغم من أنّ الشركة الصينية أكّدت في غير مرة أنّها مستعدة لمواجهة أية قرارات أمريكية تضر بمصالحها وتؤثر على إمكانية تقديم خدماتها وبيع منتجاتها لجميع عملائها، ولم تستبعد هواوي ابتكار نظام تشغيل للهواتف الذكية منافس لنظام "أندرويد" المملوك لشركة جوجل الأمريكية.

هذه الحرب الباردة الثانية، إذن، حرب سيطرة ونفوذ مرة أخرى بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، فالصين وحلفائها من الشرق وعلى رأسهم روسيا، بدأت معركة حقيقية لإثبات حضورها الدولي أمام الولايات المتحدة الممثل الرسمي للغرب الرأسمالي في صورته النيوليبرالية الحالية. وكلا الطرفين يسعى لزيادة محيط دائرة نفوذه في العالم، ففي الوقت الذي تطبق فيه الولايات المتحدة سياسات الإذعان على العديد من دول العالم، تكافح الصين إلى بناء جسور من العلاقات الثنائية مع عدد من دول العالم، لكنّها جسور تقوم على تعزيز التعاون في مجالات التنمية والبنية التحتية والتجارة البينية، لا على سياسات الإقراض المشروطة وصفقات التسليح المليارية. وكانت لمبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها الصين قبل سنوات وبدأت فعليا تطبيقها، واحدة من أكثر نقاط المواجهة الصينية الأمريكية، إذ تسعى الصين بقيادة الرئيس شي جين بينج في الوقت الحالي إلى زيادة الارتباط التجاري مع ما لا يقل عن 50 دولة حول العالم، وقد استعدت الصين لمثل هذه المبادرة عبر خطوات عديدة، منها إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، برأسمال بلغ 50 مليار دولار، ليكون مؤسسة تمويلية في مواجهة صندوق النقد والبنك الدوليين، ويهدف لمساعدة الدول الأعضاء إلى دعم جهود التنمية والتوسع في إنشاء المشاريع التنموية. ولذلك يمكن القول بوضوح إنّ المشروع الصيني وإن بدا عليه حقيقة الرغبة في توسيع دائرة النفوذ العالمي، إلا أنّه يستهدف العلاقات الثنائية القائمة على التكافؤ وأسس التعاون والتنمية، وليس صورة حديثة من صور الاستعمار الغربي للدول الأقل نموا.

معطيات الحرب الباردة الثانية تتجلى على أكثر من محور؛ الأول: محور التكنولوجيا؛ ونجد في هذا الجانب أنّ الصين تحوّلت إلى منافس شرس للتكنولوجيا الأمريكية التي أنتجت الحواسيب والهواتف المحمولة والذكية وغيرها من مظاهر التكنولوجيا التي غيّرت ملامح الحياة من حولنا. فالشركات الصينية الآن ندٌ قوي لنظيراتها الأمريكية، وشركة هواوي الصينية النموذج الأبرز لذلك، فعلى الرغم من الحظر الأمريكي الأخير على "هواوي" والذي يهدد نجاحات الشركة ووضعها العالمي، إلا أنّها نجحت في إبرام تعاقدات مع 30 دولة حول العالم لتركيب شبكات اتصالات الجيل الخامس "G5"، وأحدث هذه الاتفاقيات ما تمّ الإعلان عنه خلال زيارة الرئيس الصيني لروسيا، حيث تمّ التعاقد بين "هواوي" وشركة الاتصالات الروسية، لتكون هواوي بذلك الشركة الأولى في تكنولوجيا الجيل الخامس. وهذا التفوّق الكبير من قبل الشركات الصينية، دفع بالإدارة الأمريكية وعدد من الشركات الكبرى في الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات تعرقل من نمو الشركات الصينية.

المحور الثاني هو محور الاقتصاد، فالصين نجحت في أن تكون ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، متفوقة على اقتصادات كبرى مثل اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة، ووصلت المنتجات الصينية لمختلف أنحاء العالم بجودة مقبولة وسعر جيّد، كما أنّ الاستثمارات الصينية حول العالم تتنامى وجلها يتمركز حول المشروعات التنموية والإنتاجية والبنى الأساسية.

الثالث: محور تعزيز العلاقات الصينية مع روسيا في إطار ما يمكن فهمه أنّه مسعى لإعادة تشكيل خارطة النفوذ العالمي، في إطار من المصالح المتشابكة مع الروس، الذين باتوا في أمس الحاجة حاليا إلى إعادة تموضع عالمي. فقد استطاع الرئيس فلاديمير بوتين أن يؤسس لروسيا جديدة، تواكب الغرب في منظومتها الديمقراطية والنمو الاقتصادي وزيادة معدلات الإنتاج، فضلا عن وضع موطئ قدم راسخة في الشرق الأوسط؛ الكعكة التي تتكالب عليها القوى العظمى في العالم. ومن شأن التعاون الصيني الروسي أن يؤسس لقاعدة عالمية جديدة- كما ذكرنا في البداية- وهي النظام المتعدد الأقطاب، فالظواهر المحطية بنا وتغير ميزان القوى الإقليمية والعالمية يشيران بجلاء إلى حتميّة وجود قوى عظمى أخرى قادرة على إنهاء عصر القطب الأوحد وبدء مسار تاريخي جديد يستند في أساساته على قوى أخرى غير القوة التقليدية الحالية؛ أمريكا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي.

وولادة النظام العالمي الجديد- متعدد الأقطاب- يحقق النفع والمصالح لدول العالم، لاسيما الدول الأقل نموا، كما أنّه يقلص من مخاطر نشوب الصراعات المسلحة والحروب العابرة للقارات. فلقد كان العالم يمر بحالة من التوازن الاستراتيجي قبل الحرب العالمية الثانية، لكن في أعقاب هذه الحرب المدمرة والتي حصدت أرواح ما يزيد عن 60 مليون إنسان انهارت قوى عالمية كانت من بين الأقوى عالميا، وبدأ نجم قوى أخرى في الأفول والتلاشي. والمتأمل جيدا في مسببات الحرب العالمية الثانية يجد أنّها نتجت عن سياسات يمينية متطرفة ونزعات شعبوية وعنصرية تعلي من شأن عرق على آخر، وتحط من قدر شعوب. وتلى ذلك ما تم الاصطلاح على تسميته "الحرب الباردة" بين الاتحاد السوفييتي (سابقا) والولايات المتحدة، شهدت تسابقا ومنافسة في النفوذ سياسيا وأيديولوجيا وعسكريا وإن كان غير مباشر؛ حيث بلغت ذروتها في عملية غزو "خليج الخنازير" التي هددت العالم بحرب نووية شاملة، لكن في المقابل وضعت هذه الحرب أوزارها مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وبدأت أمريكا منذ ذلك الحين في تسيُّد العالم منفردة، حتى بدأت الصين مسيرة الصعود العالمي.

إنّ حديثنا عن حرب باردة ثانية ليس من باب التهويل أو الإثارة، بل هي قراءة هادئة في المشهد العالمي ومحاولة لفهم التناقضات والصراعات المتعددة في السياسة الدولية، والتي بات من المؤكد أنّها تتجه حاليا نحو تأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب، وفي هذه الحالة سيكون سقف التوقعات بسلام عالمي حقيقي أكثر واقعية وقابلية للتنفيذ على الأرض.