حين تضاء الغرف يهرب الظل.. من مخرجات الحرب الإسرائيلية-الإيرانية

 

سعيد حميد الهطالي

لقد أثبتت المخرجات الأخيرة للصراع المتصاعد بين إسرائيل وإيران أن خونة الداخل أكثر فتكًا من العدو الصريح، فبينما العدو معروف ومكشوف فإن الطعنة الأشد تأتي من قريبٍ يندسّ بثياب الانتماء، ويخون من تحت عباءة الوطنية.

في الحروب الحديثة، لم تعد الطلقة الأولى تطلق من بندقية، إنما من معلومة مسرّبة، أو جهاز هاتف مخترق، أو خائن من الداخل يفتح الباب وهو يبتسم.

في هذا الزمن المعقّد، الخيانة لا تأتي على هيئة جندي يحمل سلاحًا، لكن على هيئة موظف يضحك لك كل صباح، ثم يرسل موقعك للعدو، خونة الداخل لا يمكن اكتشافهم إلا إذا أنرنا الزوايا، فليس أشدّ من أن يخونك من عشت معه، لكن ليس أكرم من أن يحميك ابنك حين تكون في خطر، فليكن كل مخلص عينًا ساهرة، وصوتًا مخلصًا، وسيفًا للحق إن احتدم الأمر.

لقد كشفت المواجهات الأخيرة بين إسرائيل وإيران عن مشهد يتكرر في تاريخ كل الأمم هو أن الخطر الأكبر لا يأتي من طائرات العدو، إنما من الذين يعيشون بيننا وهم يعملون ضدنا، من أولئك الذين يتقنون لبس الأقنعة، ويعرفون متى يبتسمون وأين يطعنون.

تظهر الوقائع أن كل عملية نوعية قامت بها إسرائيل ضد أهداف حساسة في الداخل الإيراني لم تكن ثمرة تفوق تقني فحسب، بل نتيجة لثغرات داخلية خانها بعض أبناء الوطن حين طعنت مؤسسات، وغدر قادة وعلماء، وسربت معلومات، وكل ذلك جرى على يد من ينتمي شكلًا لكنه خان جوهر الانتماء.

الطعنة من الظهر لا تشبه المعركة لأن العدو واضح، معلوم، يحمل شعارًا آخر وعقيدة مختلفة، أما خائن الداخل فهو الوجه المألوف وربما القريب وربما صاحب الصوت الهادئ الذي يدعو للحكمة فيما ينقل الأخبار والمعلومات إلى الغريم.

لقد كشفت التقارير الإخبارية الأخيرة عن شبكات تجسس اخترقت مؤسسات حساسة داخل إيران، ونفذت اغتيالات نوعية في قلب العاصمة لم تكن لتنجح لولا وجود تعاون داخلي بدأ من تسريب المعلومة وانتهى بتسهيل الحركة، ولعل الأخطر ليس في وقوع الحدث إنما في تكراره، وفي القدرة على الاختراق دون مواجهة علنية مما يعني وجود شبكة من الخونة أفرادًا أو خلايا نائمة تدار من الخارج وتمول وتبرمج بعناية.

إن خيانة الداخل لا تلبس دومًا شكل الجاسوس التقليدي، قد يكون موظفًا بسيطًا يسرب بريدًا إلكترونيًا، أو سائقًا يبلّغ عن تنقلات، أو فنيًا في منشأة حساسة يعبث بالأنظمة، هؤلاء لا يحملون راية عدو، لكنهم يحملون بطاقة وطنية، هم الثغرة التي يتسلل منها الخطر، وهم اليد التي تفتح الباب حين تظن أنك أغلقته بإحكام.

إن الوطن لا يحميه السياج، إنما يحميه ضمير أبنائه، حين يصبح الولاء شرفًا، والصدق سلاحًا، والانتماء صلاة لا تنقطع.

الوطن لا أغنية نرددها، هو امتحان يومي للإحساس والشعور، يحسن خوضه من نذر نفسه للصدق، لا من تزين بالشعارات في ساعة رخاء، هو تلك اللحظة التي ترفض فيها أن تكون شاهد زور، وتختار أن تكون ابن الأرض لا ابن المصلحة.

وعبر هذا المقال يكون دورنا أن نذكّر من حولنا أن الوطن لا يحميه الجيش وحده، بل المواطن الذي لا يساوم، فخونة الأوطان كالأشباح، يتحركون في العتمة، ويكرهون النور، ويخافون المواجهة كل ما يحتاجونه كي يظلوا طلقاء، وكل ما نحتاجه لكشفهم هو أن نشعل النور، أن نُضيء الغرف، أن نتكلم، أن نرصد، أن نرفض.

فليكن انتماؤك جذورًا لا تقتلع، لا انحناءة تبحث عن ظل أينما اتجه، واعلم أن حب الوطن ليس شعارًا لكنه موقف، والمواقف لا تؤخذ إنما تصنع.

حمى الله جميع بلاد المسلمين، وجمع شملهم على الحق، ووحد صفوفهم، وأطفأ نار الفتن بينهم، وأبدل خوفهم أمنًا، وفرقتهم وحدة، وضعفهم قوة، وجعل رايتهم خفاقة بالحق والعدل والإيمان.

 

 

 

 

 

الأكثر قراءة