د. عبدالله باحجاج
أكبر الاستدلالات وأعظمها على عنوان المقال نجدها في منطوق الآية الكريمة: "وتعانوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان"، و"البر والتقوى" هما كلمتان جامعتان شاملتان لكل أنواع الخيرية الشاملة؛ فالتعاون من منظورهما يشكل اللبنة الأولى في ديمومة تماسك البناء المجتمعي مهما كانت التحديات التي تواجه أية دولة.
لكن، ما هو البناء الاجتماعي المتماسك الذي نراهن عليه هنا لمواجهة مختلف التحديات؟ الكشف عن غُموضه بصورة مُبسطة يضعنا في صلب الموضوع مباشرة؛ فالمجتمع المتماسك يعني أنْ تكون درجة استجابته عالية لمواجهة تحدياته الداخلية والخارجية، وتزداد هذه الاستجابة في الأوقات التي توجد فيها مُهدِّدات ذات تأثير سلبي على أفراده أو على الدولة.
ودرجة هذه الاستجابة موجودة -ولله الحمد- وقد رَصدنا أهم صورها في الكثير من المناسبات الوطنية، والأنواء المناخية، ومؤخرا عبر عدة صور؛ مثل مبادرة "فك كربة" التي شملت مختلف محافظات البلاد، وبناء عمارة من خمس طوابق وتخصيصها للمحتاجين، وقد تناولناها في مقالنا الأخير المعنون باسم "ليتكم تقتدون بعثمان"، وقد وقفنا خلال يومي الجمعة والسبت الماضيين على صورة رائعة ومدهشة جدا من صورة التعاون التي يدعو لها منطوق الآية الكريمة، وهى حملة استكمال بناء العمارة الوقفية المخصصة لمساعدة الأيتام وأسرهم في محافظة ظفار، وقد هدفت جمعية بهجة للأيتام من خلالها جمع 150 ألف ريال عماني. وفعلا، وخلال تلكم الفترة الزمنية القصيرة، تم تحصيل المبلغ وبسهولة؛ وبذلك سترى هذه العمارة النور قريبا، وهذا يعني أن هناك دخلا مستداما سيتم تأمينه لهذه الفئة، وهو 42 ألف ريال سنويا.
وقبلها، شهدنا صورة تعاون أخرى ناصعة البياض، ناطقة بذاتها لذاتها عن طبيعة المجتمع المتماسك والمتضامن، فبمجرد أن وجه فريق الأيادي البيضاء نداء لتوفير مبلع مالي لحالة مرضية يمنية عاجلة، تحتم حالتها الصحية علاجا مكلفا ماليا، فلم تمض سويعات إلا والمبلغ قد تم جمعه اجتماعيا بأضعاف ما كان يُتوقع بحكم ظروف الناس المالية وضغوطات احتياجات الأسر في شهر الجود والكرم.
والوقوف مع الحالة اليمينة، يعبر عن انفتاح التعاون العُماني نحو التضامن مع الأشقاء اليمنيين الذين تُفتح لهم أبواب مستشفياتنا بالمجان أسوة بالعماني، ما عدا الحالات التي تتطلب كُلفة مالية، وحتى هذه الأخيرة قد أصبحت صور التضامن المجتمعي تشملها؛ حيث أنشأ مجموعة من أبناء المجتمع آلية مُتطورة للوقوف معهم تحت مسمى "فريق الأيادي البيضاء للعلاج الطبي"، وقد أصبح يحظى بثقة المجتمع والمؤسسات الحكومية والمدنية والخاصة بعدما أثبت أعضاؤه التجرد في العمل والمهنية فيه، والخيرية الكامنة فيهم وفي نتائج صنيعهم.
وتظلُّ صورة التضامن المجتمعي مع حملة استكمال المبنى الخيري الأول للأيتام بديعة من نوعها، وربما غير مسبوقة في مجتمعنا المحلي على الأقل، وهى تُحسب لجمعية بهجة للأيتام صاحبة الفكرة، وقائدة هذا الجهد الذي فجَّر في الكيانات المعنوية والعادية ينابيع الخير في العشر الأواخر من الشهر الفضيل، والخيرية لن ننظُر إليها من المنظور المالي رغم أنه يدخل في صُلبها، وإنما في الشباب من الجنسين الذين استجابوا لحملة الجمعية، وأسهموا في نجاح هذه الحملة بامتياز؛ مما يجعل لدينا الآن تجربة بفاعلين متطوعين، تعزز ثقافة التطوع، وترسخ في المقابل ثقافة التعاون.
وتِلكُم الصور سالفة الذكر تُدلِّل على قوَّة البناء المجتمعي المتماسك في حلقاته، والمتضامن بين أفراده وجماعاته، ونؤكد على أهمية التفكير في إطلاق إبداعاته كما فعلت جمعية بهجة مؤخرا؛ فمجتمعنا المحلي قد عبر عن صور مثالية في التضامن والتماسك بين أفراده ومع توجهات الحفاظ على لبناته، وهذا هو الأصل، وعلينا تغليبه وتكريسه، وكذلك استناطقه بكل اللغات واللهجات، فليس لدينا ضعف في التضامن المجتمعي أبدا، بل نقاط قوة غالبة إن عرفنا كيف نستدعيها، ومتى، وكيف.
150 ألف ريال تم تجمعيها في يومين من أفراد وشركات من أجل أن تكون هناك عمارة وقفية للأيتام وأسرهم، بعائد مالي سنوي مُستدام 42 ألف ريال، وإقدام الكثير من الأفراد على كفالة يتيم عبر جمعية بهجة، وكذلك إقدام شخصية تجارية ببناء عمارة وتمليكها للمحتاجين من بني وطنه، والاستجابة الفردية والجماعية الفورية لكل نداءات فريق الأيادي البيضاء، هي من منظور علم الاجتماع أكبر المؤشرات على تماسك البناء الاجتماعي.
وذلك على عكس المجتمع الهش الذي يُعرِّفه عالم الاجتماع جيف جونسون، والذي يعاني من ضعف التضامن المتبادل بين الأفراد والجماعات، ويظهر هذا الضعف في عدم الاستجابة المجتمعية للحالات المحتاجة التي تظهر فوق السطح الاجتماعي؛ وبالتالي مُجتمعنا قوي في ذاته، قوي في التعبير عن تضامنه، ولن نخشى عليه أبدا مهما كانت التحديات الظرفية.
فشُكرا لجمعية بهجة للايتام التي فجَّرت رسائل القوة المجتمعية في توقيت ما أحوجنا إليه الآن؛ وذلك حتى نرى المشهد كما هو لا كما قد يُؤول ويفسر باجتهادات ضيقة، شكرا للجمعية فقد حملت كل الأفراد والجماعات على الخير وعلى الاتفاق عليه، ومن خلاله -وخلال المبادرات الأخرى سالفة الذكر- قد عرف كل فرد -معنويًّا أو اعتياديًّا، خاصًّا أو عامًّا- الإنسانية في كينوته، ومن ثم وضعت الأفراد أمام إعادة تقويم وتصويب الرؤي، وجعلت من التساؤلات التالية محور جدال داخل كل قادر ومقتدر على فعل الخير ولم يفعله، وظل مستأثرا بخيراته لوحده.
كيف لا يُوضع مشهد المواطنين من مختلف أنحاء البلاد، وهم يتسابقون على مركز حملة استكمال بناء العمارة الوقفية في أحد المراكز التجارية الكبيرة، كل حسب قدراته المالية من مئات البيسات إلى نصف الريال والريال.. تصاعدا حتى استكملوا المبلغ.
وهنا ندعوكم للتأمل في هذه التساؤلات الضميرية من منظور الاستهداف الذاتي، ذاتي وذاتك، وكل من يقرأ هذا المقال، الكل معنيٌّ بها، وسأحصُرها في التساؤلات الثلاث التالية:
- ما هي رسالتي في الحياة؟
- هل تكمن في الاستئثار الفردي بالأموال، أم تسخير جزء منها للوقوف مع أبناء المجتمع؟
- هل نقف مُؤيدين وداعمين للخيرية التي تتفجرُ ينابيعها في كل الاتجاهات هذه الأيام ولله الحمد والشكر؟
أين يجد كل واحد منا نفسه من هذه التساؤلات؟ لا ينبغي التردد على مواجهة هذه التساؤلات دون قلق أو إحراج، وكل من يكتشف في نفسه مثل ذلك؛ فالفرصة لا تزال سانحة ومتاحة جدا؛ فأبواب الخير لا تزال مفتوحة.. فقد أقدم أمس بعض الشباب على الاقتطاع من رواتبهم قرابة الـ30 ريالا لكفالة يتيم...إلخ هذا فقط مجرد مثال؛ الأهم أن نسارع في الانضمام لهذا المسير الذي يحفظ مصيرنا الاجتماعي الوطني.
وإلى أولئك الباحثين عن الإنسانية في ذواتهم، أتمنى أن لا تكتشفوها في وقت النهاية التي تكون عليكم لا لصالحكم، هي الآن بين أيديكم حتى لو اختفت الآن ابتسامتكم خلف تجاعيد السنين، الوقت لا يزال، حرِّروا أنفسكم من سجن الذات "الأنا" ففيها الشقاء والتعاسة، ألم يُصِبكم الإرهاق والتعب من جمع الأموال، كفى ركضا عبر السنين الماضية، وانضموا فورا لمسيرة إعلاء التضامن المجتمعي، صدِّقوني ستشعرون فورًا بالسعادة، وستنامون ليلًا دون حبوب منومة، وستسمعون دعوات الأرامل والفقراء في منامكم، وستستيقظون مبكرا لكي تفرحوا بمشاهد الفرحة على وجه الأيتام والأرامل والمطلقات والمعسرين أو البيوت التي يفتحها الشباب لو أسهمتُم في تأسيس صندوق الزواج أو تأمين الحق في السكن.. فهل ستبخلون على أنفسكم بالصحة النفسية والجسدية من خلال فعل الخير؟
كل الفخر والافتخار في شبابنا الذين كسبوا الثقة الاجتماعية والمؤسسات الحكومية، ويعملون على خدمة مجتمعاتهم بكل تجرد وبعيدا عن الأضواء، وكل التقدير والاحترام لكم، لا نخصُّ من سبق ذكرهم في المقال فقط، بل الكل على مستوى السلطنة، ومن المؤكد هناك الكثير داخل كل مجتمع محلي، يحمل الهواجس نفسها، وربما أكثر.
وندعو الله -جل في علاه- في هذه الأيام المباركة أن يعيد الحياة لضمائر أغنياء البلاد، وأصحاب الثروات الضخمة -ولا نُعمم- وعليهم العلم بأن ديمومة الاستقرار والأمن في البلاد يتوقف عليه الآن في مرحلة الضرائب والرسوم، شراكة ثلاثة قطاعات، هي الحكومي والخاص والمدني.. وبالتالي، فدورهم في استنهاض همم القطاع الأخير يحتم خروجهم عن السلبية الموسومة بهم؛ فبلادنا أعطتهم كل شيء، وتنتظر منهم الآن رد الجميل، فهل سيشعرون بالخجل من اقتطاع المواطن البسيط من محدودية أو ضعف راتبه لخدمة المحتاجين من مجتمعه؟ لدينا أمل يشُوبه الحذر من خروجهم من هذه السلبية طوعًا.