الحروب هي العامل الأقوى وراء انتعاش الاتجار بالبشر

 

عبيدلي العبيدلي

وسط سيل الأخبار المتلاطم بشأن الأوضاع المتأزمة في منطقة الشرق الأوسط واحتمالات تصاعدها، وفي خضم تضارب التوقعات حول احتمالات اندلاع حرب جديدة في هذه المنطقة التي لم تعرف الاستقرار منذ ما يربو على نصف قرن، ووسط ترقب الإعلان عن صفقة القرن، أعلنت الشرطة التركية عن اعتقالها "زعماء أكبر عصابة لتهريب البشر في أوروبا. إذ ساعدت آلاف المهاجرين غير الشرعيين على الوصول إلى أوروبا من الشرق الأوسط. وقالت شرطة إسطنبول إنّه جرى اعتقال 20 شخصاً منهم زعيم العصابة ... وأضافت الشرطة أن هذه الشبكة ساعدت بصورة أساسية مواطنين أفغان وعراقيين وسوريين على الوصول إلى بلدان أوروبية ...".

وهناك العديد من التعريفات التي تصف هذه التجارة البشعة، لكن الأبسط والأكثر مُباشرة بينها هو، كما يعرفه (بروتوكول الاتجار بالأشخاص) الذي وقعت عليه 105 دول، "تجنيد أو نقل أو تحويل أو استلاب الأشخاص عن طريق التهديد أو استخدام القوة أو أي نوع من أنواع الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع، أو إساءة استخدام القوة، أو استغلال موقف ضعيف، أو إعطاء أو تلقي دفعات أو فوائد للحصول على موافقة شخص يتمتع بالسيطرة على شخص آخر بهدف الاستغلال، ويشتمل الاستغلال في حده الأدنى على استغلال الآخرين في الدعارة أو الأشكال الأخرى، من الاستغلال الجنسي أو العمالة أو الخدمة القسرية أو العبودية أو ممارسات مشابهة للعبودية أو العمل بالإكراه أو نقل الأعضاء".

وتجمع الكتابات التي تؤرخ لهذه الجريمة على أنها عميقة في سنوات تاريخ المجتمعات البشرية، إذ يرجعها بعض المصادر إلى "تجارة الرقيق الذين يتم بيعهم في سوق النخاسة بعد أسرهم في الحروب أو بعد خطفهم من ذويهم، (لكنها) تطورت وأصبحت ذات أبعاد وصور كثيرة، يُمتهن فيها الإنسان (النساء والأطفال على الخصوص)، ويُستغل، ويُذل، بشتى أنواع التصرفات والممارسات، ويُتعامل به كبضاعة منزوعة الإنسانية".

وتتفق التقارير التي تناولت هذه التجارة على أنَّ أهم عامل وراء انتعاشها هي الحروب، فهي البيئة الأكثر خصوبة التي تنتعش فيها هذه التجارة لذلك، وبخلاف محاولات البعض المستمرة في تمويه دور الحروب، لكن الإحصاءات الدولية، بما فيها تلك الصادرة عن مؤسسات تنشط في الدول التي تغذي اشتعال الحروب، تجمع على أنَّ الحرب تتصدر قائمة الأسباب الأخرى، وتحظى بنصيب الأسد عند الحديث عن أحجام أسواق هذه التجارة، ومساحة الرقعة الجغرافية التي تنتشر فيها. وهذا يفسر كونها ظاهرة عالمية لا تحصر نفسها في رقعة جغرافية مُعينة، ولا تتقيد أسواقها بحدود سياسة لهذه الدولة أو تلك. وهو ما يكشف أيضًا تنامي هذه الظاهرة في المنطقة العربية خلال نصف القرن الماضي.

وينفرد هذا النوع من التجارة عن سواه من الأنواع الأخرى، كما يُشير د. هشام عبد العزيز مبارك، كونه "يتخذ من الإنسان موضوعًا له فيجعله سلعة ومحلاً للعرض والطلب، يمكن تداولها واستغلالها بكافة الوسائل غير المشروعة وذلك بالمخالفة لتعاليم الدين الإسلامي والقوانين والأعراف الدولية".

وفي ورقته التي قدمها في لقاء "المبادرة العربية لبناء القدرات الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر"، ركز،  د. يعقوب علي جانقي على "البعد الاقتصادي والاجتماعي في مكافحة الاتجار بالبشر: مفاهيم واتجاهات"، فأشار إلى أن عمليات الاتجار بالبشر أصبحت "ثالث جريمة منظمة بعد تجارة الأسلحة والمخدرات من حيث الانتشار وتحقق عوائد مالية كبيرة حيث بيّن تقرير لمنظمة العمل الدولية أن الأرباح التي تحققها عصابات الاتجار في البشر من وراء استغلال النساء والأطفال جنسياً قد تصل إلى حوالي 30 مليار دولار في العام، وتبلغ الأرباح المحققة من جراء إكراه البشر على أعمال جبرية إلى 32 مليار دولار".

وينقل د. يعقوب عن تقرير مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة لعام 2010 أن  %79من ضحايا الاتجار بالبشر قد تعرضوا لاستغلال جنسي و %18 من الضحايا قد تعرضوا للعمل القسري 3 % من صور الاتجار الأخرى. بالنسبة لتوزيع الضحايا بين النساء والرجال والأطفال فقد ورد في التقرير أن 66  % من ضحايا الاتجار بالبشر هم من النساء و %13 من الفتيات، و12 % من الرجال و 9 %من الأولاد".

ووفقاً لتقارير دولية أخرى فإنَّ دائرة أنشطة جرائم الاتجار بالبشر، التي تسمى أحيانًا "الرق الحديث"، تنتشر على مستوى العالم بحيث وصل عدد ضحاياها ما يزيد على "40 مليون شخص يقعون فريسة في شبكة مخيفة من العمل القسري والاستغلال الجنسي والزواج بالإكراه ووفقاً لبعض التقديرات، يُعد الاتجار بالبشر من الجرائم الأكثر ربحية على مستوى العامل، حيث يدر ما يزيد على 150 مليار دولار سنويًا. وثلثا ضحايا هذه الجرائم أو ما يقرب من 25 مليون شخص، يتركزون في منطقة شرق آسيا والمُحيط الهادئ".

على نحو مواز تبين التقديرات الصادرة مؤخراً "أن العدد السنوي من الرجال والنساء والأطفال المتجر بهم عبر الحدود الوطنية يتراوح بين 600000 و 800000 شخص وأكثرهم يتجر بهم لأغراض الاستغلال الجنسي التجاري (تقرير الاتجار بالأشخاص الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عام 2005). وهذا التقدير لا يشمل ملايين الضحايا في جميع أنحاء العالم ممن يتجر بهم داخلياً ضمن الحدود الوطنية لكل دولة وتقدر المنظمة الدولية للهجرة (IOM) الرقم على الصعيد العالمي بنحو مليونين شخص تقريباً".

من الطبيعي أن تتعدد الأسباب التي تقف وراء انتعاش هذا النوع من التجارة، لكن، لا تخلو التقارير والدراسات التي تعالج هذه الظاهرة من التوقف عند القول بأنَّ الحروب هي العامل الأقوى الذي يولد أسواق هذه التجارة، وهي التي تمدها بالقدرة على الاستمرار والتوسع. وهذا ما يفسر تراجع تأثيرات، ومن ثم جدوى كل الحلول الأخرى التي تكررها أدبيات المكاتب الدولية المتخصصة في محاربة هذه التجارة، كونها غير قادرة على وقف العامل الأساسي الكامن وراءها وهو الحروب.