"سيدات القمر"

 

محمد بن حمد البادي

 

يقول أحدهم (جواهرينا لم يصل إلى درجة الإبداع الأدبي إلا بعدما ألقى بعمته في أقرب كناسة) وهنا يُشير القائل إلى الشاعر والأديب العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، صاحب ديوان الجواهري ـ والذي لُقّب بشاعر العرب الأكبر ـ يوم أن أسقط عمامته التي فرضها عليه التزامه الديني وعادات وتقاليد آبائه وأجداده.

أسقط الجواهري عمته من فوق رأسه فأسقط معها كل القيم التي تربى عليها في مجتمعه النجفي المُحافظ، وسحبت معها سقوطاً مجلجلاً كل ما اكتسبه من عادات وتقاليد ومبادئ وقيم أهل النجف مسقط رأسه، وتهلهلت كل الأخلاق الفاضلة التي تعلمها منذ صغره.

 

 

 

وبغض النظر عن صحة هذه المقولة من عدمها، فقد ترسخ في أذهان بعض البشر فكراً مشوهاً حول المُبدعين ـ خصوصاً في المجال الأدبي ـ ففكرهم العقيم يرى أنَّ القيم الفاضلة والإبداع في هذا المجال على طرفي نقيض دائماً، فهما خطان مستقيمان مهما امتدا لا يلتقيان أبداً، وعيونهم الضيقة ترى أنَّ من كانت خصاله فاضلة وقيمه رفيعة بإمكانه الكتابة ولكن من غير المتوقع له أن يُبدع فيها، لأنه من الصعب جداً أن يخرج عن النص، ولا يمكنه أبداً القفز فوق حاجز تقاليد وعادات المجتمع، كما أن هؤلاء، وبهذه النظرة الدونية، يرون أنَّ الإبداع لن يولد بعيداً عن التمرد على القيم والثوابت والأخلاق الفاضلة، أقنعوا أنفسهم ومن على شاكلتهم بأنّ أغلب الأعمال الأدبية الإبداعية لم يكتبها إلا متهتكون وشاربو خمر ومدمنو مخدرات ومتسكعون ومشردون، ولدعم هذا الرأي المشوّه ضربوا أمثلة ببودلير وهنري وسيليفيا بلاث وجان جينيه، وزادوا الإثبات بشواهد من شعراء أمتنا العربية من أمثال امرؤ القيس وأبي نواس.

 

 

 

وبالطبع هذه القاعدة لا يُمكن لها أن تكون صحيحة، وما الإنجاز الملفت للنظر والرائع جداً الذي حققته رواية (سيدات القمر) عندما فازت الأسبوع الفائت بالجائزة العريقة International Man Booker التي تأتي في المرتبة الثانية بعد جائزة نوبل للأدب مباشرة إلا أحد البراهين الدالة على خطأ هذه القاعدة وخطأ من نادى بها.

فوز تاريخي للعالمية جوخة الحارثية يُعطينا فرصة لفك الارتباط بين الإبداع الأدبي وهذه السلوكيات التي لا يعترف بها مجتمعنا العربي المسلم، فمن غير المناسب، بل من الظلم والإجحاف أن نربط الثرى بالثريا.

فوز كاتبة عمانية بجائزة International Man Booker) يجعل هذه الكاتبة "عالمية" عن جدارة واستحقاق، فقد كانت روايتها (سيدات القمر) واحدة من بين الكتب الستة المترجمة إلى اللغة الإنجليزية من ست دول مختلفة وتحديدا من فرنسا وألمانيا وبولندا وكولومبيا وتشيلي وسلطنة عُمان، بعد أن تمت التصفية الأولى من ١٣ كتاباً من جنسيات مختلفة إلى ٦ كتبٍ فقط، ويبدأ حبس الأنفاس لمدة قاربت ٤٥ يوماً، ليكون مساء الثلاثاء ٢١ مايو ٢٠١٩م بتوقيت لندن ـ فجر الأربعاء بتوقيت السلطنة ـ موعداً تاريخياً للأدب العماني والعربي، حينها تمَّ رفع الحجب عن الفائز بالجائزة العالمية المرموقة International) Man Booker) لهذا العام ٢٠١٩م، ليسطع لنا مشرقاً اسم كاتبتنا ـ ابنة عُمان الروائية المبدعة ـ الدكتورة/ جوخة الحارثية لتصبح بذلك أول شخصية عربية تفوز بهذه الجائزة منذ نشأتها في عام ٢٠٠٥م بعد نقاش ومناظرات بين أعضاء لجنة التحكيم الخمسة وإجماعهم على جمال وعمق وعبقرية رواية (سيدات القمر).

 

 

 

رواية (سيدات القمر) حققت إنجازاً أدبياً عالمياً غير مسبوق على المستوى المحلي والعربي، وبهذا التتويج المستحق لا شك أنَّ كاتبتنا العالمية الدكتورة جوخة، والتي عملت بصمت بعيداً عن الأضواء، أسعدتنا كثيراً وأثلجت صدورنا، فحُقّ لنا جميعاً أن نشعر بالفخر والاعتزاز، فهو إنجاز لكل قلمٍ عُماني، لكل أديبٍ أريب، لكل روائي وقاص، للشارع الأدبي والثقافي العماني والخليجي والعربي، لكل من داعبت أنامله الحبر والقرطاس ليخرج فكراً سامياً وأدباً رفيعاً.

الدكتورة جوخة حققت إنجازاً عالمياً ألهمت به جميع الشباب العماني والعربي روح الإبداع والتحفز والإصرار من أجل استغلال كل الفرص، واستثمار مواهبهم وقدراتهم كجناحي طائرٍ للتحليق في سماء الإبداع، فقد أثبتت الدكتورة العالمية أنَّ الإبداع الأدبي لا يعترف بالمسافات بين المدن ولا بالحدود الجغرافية بين الدول، كما أن الإبداع الأدبي ليس له جنسية معينة، ولا عرق ولا لون فسماؤه مفتوحةً للجميع، وفضاؤه يسع كل باذلٍ ومجتهدٍ، وأرضه تربةً خصبةً لمن استغل مواهبه وطوّر من قدراته وإمكاناته.

الدكتورة جوخة ألهمت العرب كافة معنى العمل بإخلاص في شتى المجالات، بعيداً عن كل المصطلحات السلبية من الاتكالية والكسل وندب الحظ والتباكي على أطلال الماضي والتسلق الهش والتملق الزائف وغيرها من الأساليب الملتوية، فقد أعطت نموذجاً رائعاً لكيفية استغلال الطاقات الجسدية والفكرية في إنتاج أعمالٍ خالدةٍ تُفيد الإنسانية وتبني بيوت العز والرفعة والعلو.

كما أثبتت الدكتورة جوخة بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ من يسعى للإبداع والنجاح بجدٍ واجتهادٍ وصدق نية تسقط أمامه كل العوائق وتتحطم تحت قدميه كل الحواجز، ليخرج لنا فكراً سامياً عابراً للقارات، متخطياً كل البحار والمُحيطات ليتربع على منصات التتويج العالمي.

كما أنها وبهذا الإنجاز العالمي الرائع برهنت للجميع بصورةٍ جليةٍ على أنّ حب الأوطان والانتماء لها يُقاس بالأفعال العظيمة الخالدة التي ترفع اسمها عالياً خفاقاً في المحافل العالمية، وليس بالشعارات الزائفة أو الفرقعات المصطنعة.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك