د. عبدالله باحجاج
لن نكشف عن هُوية عُثمان؛ لأننا لم نستأذنه، وعلِمنا من مصادر مقربة منه أنه يرفض الكشف عن هُويته حتى لا تعرف يمنيه ما تنفق شماله، وهنا التباس في فعل الخير؛ فالجنوح نحو القدسية فيه مسألة ينبغي أن تُستدرك أو يُعَاد تصويبها، فنحن في مرحلة تتطلَّب الجهر والكشف عن الأعمال الخيرية بأسمائها وذواتها، لدواعِي وضع النقاط فوق الحروف، فقد أصبح من حق المجتمع أن يعرف من يقف معه، ومن يتفرج على مشاكله؛ فذِكرُ صفاته سيضع أصحاب الأبراج العالية في مجموعة إحراجات كبرى سيكولوجية واجتماعية وأخلاقية، وسينتابهم الحرج من سلبيتهم كلما برزوا فوق سطح المجتمع، مقابل فاعلية الآخرين من نظرائهم، ورُبما يكونون أقل منهم من حيث الثروات، لكنهم الأكثر إحساسا ومبادرة للتعاضد مع مجتمعهم.
من هُنا نحبِّذ ذكر الأسماء؛ لأن في هذا مصلحة اجتماعية ووطنية في آن واحد: الوطنية ترجع لطبيعة التحولات الكبرى التي طرأت على دور الدولة منذ منتصف العام 2014؛ بحيث أصبح دورها الجديد يقتطع الأموال من جيوب المواطنين بدل ما كان يُغذِّي جيوبهم طوال العقود الماضية؛ مما نشهد الآن له تداعيات اجتماعية مُتصاعدة، لابد أن يتصدى لها المقتدرون الذين كوَّنوا ثرواتهم خلال السنوات السِّمان عِوَضا عن أن يقفوا في مرحلة التفرُّج.
واسم عُثمان في حد ذاته مَعْرِفة لأنَّ الاسم يُشير إليه فعليًّا، وقد تتجه إليه الإشارات مباشرة؛ لأنَّ فعل الخير لا يُرمى به في البحر، وتأكله الحيتان الكبار أو يهوي إلى قاع البحر، وإنما يتفاعل داخل محيط اجتماعي مؤثر فيه، ويتأثر به، وينتج وقائع اجتماعية ذات حمولات ثقيلة من العواطف والمشاعر، ومُبادرة عُثمان تخرج عن كل المبادرات الخيرية التي يُمكن وصفها بأنها أصبحت نمطية رغم أهميتها، ورغم أنَّ المجتمع لا يزال يحتاج إليها كذلك، وهى في تصاعد أيضا؛ فـ"فك كربة" مثلا أصبحتْ ظاهرة يتسابق إليها رجال أعمالنا، لكن في ظل عزوف الكبار منهم والمخضرمين تحديدا الذين ابتلعوا الخيرات منذ بداية عام 1970.
ورغم ذلك، ندعو للخروج عن صندوق التفكير النمطي مثلما فعل عُثمان تناغمًا مع طبيعة التداعيات الاجتماعية وأنواعها الجديدة؛ فالفكر النمطي لم ينفتح على التداعيات الجديدة مثلما فعل عُثمان، وإذا ما أظهر البعض أفعالَ خير فمساراتها معروفة، ونؤكد مُجددا أننا لا نُقلِّل منها أبدا، لكن تجربة عُثمان فريدة من حيث نوعيتها والتفكير فيها؛ فهو وإن كانت له أيادٍ بيضاء في المسارات النمطية كغيره، لكنه قد أصبح مميزا بنقل تفاعله مع بني مجتمعه إلى مستوى أرقى وأسمى وأنبل دون أن يكون حساب تفاعله مع الخيرية النمطية، لشعوره بأهمية تعاظم دوره الخيري في تأمين الحق في السكن، ليس مع ذوي قرباه، وإنما من خارجهم.
من هُنا، عنونا المقال بالعبارة التالية "ليتكم تقتدون بعُثمان"، فقد أقدم على بناء عمارة من خمسة طوابق؛ فيها 12 شقة، وقام بتمليكها مجانا لمستحقين من الشباب وأخرى لأسر محتاجة، والكثير منهم لا ينتمون له أسريا ولا اجتماعيا، ومنذ علمنا بالعمارة، نجد أنفسنا مشدودين لها يوميًّا، للتأمل في محتواها الدلالي والغائي وانعكاساتها، وكم ينتابنا شعور بعظمة ما فعله عُثمان، كلما نقترب من معرفة تفاصيل الانعكاسات الكبرى لفعل عُثمان، وصلت بنا حالتنا الوجدانية إلى عُمق الشعور بثوابه في الدنيا والآخرة.
فأعمال الخير تفرِّج الكرب عن أصحابها، خاصة كرب يوم القيامة، بما فرجه على الآخرين من كُرب، وبما أزاله عن قلوبهم من هُموم عظيمة.. وأية هموم؟!! إنَّها هموم السكن والمأوى، ولنا تصوُّر الفرحة العظمى لشباب وأسر فقدت الأمل في حق السكن، وفجأة جاء عُثمان ومنحهم الحق بالمجان دون أن يلزمهم بدافع قانوني أو علاقة قرابة، إنها الدافعية الأخلاقية التي يستمدها من انتمائه لدين عظيم ووطن جمائله على الكل.
والمُدهش في مبادرة عُثمان أنه اختار لبناء العمارة مكانًا راقيًا فيه كل الخدمات، والأرض فيه -أي المكان- تقدر بالمال الكثير لقربها من المواقع التجارية في صلالة، من هنا يتولد لدينا الإحساس بعِظم الأجر لعُثمان في الدنيا والآخرة، فقد وهب الأرض وصرف عليها من ماله آلاف الريالات لإقامة العمارة، كتجارة مع الله جل في علاه، ومع هذا لا يريد أحدا من البشر أن يعلم عنها، ما هذه القدسية يا عُثمان التي أردت أن تنفرد بها لوحدك، إنها بمثابة قدسية العابد أو الصُّوفي الذي يرجو من خلولاته مع خالقه، وهذا من حقه، لكن أين حق المجتمع في العلم؟ وأين حق الرأي العام في الضغط على أصحاب الثروات لكي يقتدوا بمثل ما فعله عُثمان؟
وكلما أمعنَّا التأمل في العمارة، نرى ثواب عُثمان عند الله مجسَّدا في الشباب الذين أقدموا على الزواج بعد أن أمن لهم عُثمان الحق في السكن بالمجان، نراه كذلك في الأسرة التي أصبح لها مسكن عصري بعد أن كانت بلا مسكن، أو لديها مسكن آيل للسقوط، وفي كل حالة أنواء مناخية تغزوها المياه لعدة أمتار، نراه في حالة الاستقرار والتوازن السيكولوجي للأسر في 12 شقة.
ومثل هذه المبادرات ستقلِّص الفارق في المستويات المعيشية والمظهرية الاجتماعية؛ مما ينعكس إيجابًا على التوازن التربوي للأسر؛ فالعمارة قد بُنيت في أفضل المواقع السكنية في صلالة، ووفق الأسس العصرية، وبمرافقها المعيشية والصحية الحديثة، سيتلاشى معها حجم الفوارق الطبقية.
مِن تِلكم الأبعاد وانعكاساتها الاجتماعية، نتمنَّى أن يقتدى الآخرون بمُبادرة عُثمان بصورة فردية أو جماعية، والجماعية هي الأفضل عبر مختلف صور التكامل والتعاضد؛ فالحاجة تقتضي التكامل بين الأفراد والجماعات مع مؤسسات الدولة لتأمين حقوق اجتماعية أصيلة ليس من باب المنة والشفقة مثلما فعل عُثمان، ومن اليقين أن عُثمان يعيش الآن في نفسية لم يسبق لها مثيل؛ فمن ينفِّس الكُرب، ينفس الله عنه كُرب من كرب يوم القيامة، وما دام المسلم يسعى في إسعاد الناس، فمن المؤكد أن السعادة سيشعر بها كذلك، وهذا بحكم نصوص دينية قطعية.
يا ليتكم أيُّها الأغنياء تقتدوا بفعل عُثمان حتى تشعروا بالسعادة الحقيقية في الدنيا وكذلك الآخرة قبل استحقاقها، وهذا الاستحقاقُ الأخير يُدركه المرء بكل جوارحه في حياته لو أمضى في طريق عُثمان الذي لم يستأثر لوحده بما رزقه الله تعالي، وإنما يُشارك المحتاجين من مجتمعهم في تحقيق أحلامهم، كالحلم في حق السكن وبالمجان، اللهم بارك في عُثمان وأمواله وعائلته، وكل من كان هاجسه فعل الخير.. اللهم أمين.