حمد بن سالم العلوي
دخلت أحد الأسواق الكبيرة قبل أيام قليلة من حلول شهر رمضان المُبارك، وربما حمد الله البعض أن منحهم يوماً آخر للتسوق، يوم أُعلن عن عدم ثبوت رؤية الهلال، وهالني منظر النَّاس وهم يتهافتون على شراء المواد الغذائية بشراهة منقطعة النظير، وحمدت الله أن مَنَّ عليّ بزوجة عاقلة تسمع الكلام وتُقدره، فقد قلت لها إننا في رمضان سنأكل أقل مما نأكله في غير رمضان، لذلك علينا أن نحذف من قائمة المُشتريات مواد التسمين، ونبقي على المواد الضرورية، وإننا سنختصر الدعوات في رمضان على بعض الأقارب والأصدقاء، وسنوزع الدعوات على ثلاث دعوات لا نُكرر فيهن المدعوين، فسنوزع تلك الدعوات على ثلاثة أسابيع من هذا الشهر الفضيل، وبذلك نكون قد خططنا جيداً لهذه المناسبة الروحانية الجميلة.
إذن الزحام الذي رأيته في السوق يُطرب أصحاب المحلات التجارية، ولكن يفطرُ قلب كل عاقل، لقد رأيت العجب من الزحام والكميات الكبيرة من التبضع، فأقل متسوق يدفع بعربتين، طبعاً ليس شخصاً واحداً يستطيع أن يدفع عربتين، ولكن عنده من يُعاونه على إتمام المهمة، وقد تحول شهر رمضان إلى مضمون آخر مختلف، فصار شهراً للتسمين والتبذير والإسراف، فلا شيء يصاحب الناس من قيم رمضان، وهم يهجمون على المحلات التجارية الكبرى بتلك الشراسة والعزم، ولا أظن أن دكاكين الحارة سيحتاج لها أحد من الجيران خلال هذا الشهر، مما سيخل بالتوازن التجاري بين القوي والضعيف، إلا إذا نقص عليهم شيء من مشروب اللبن أو أي شيء يسير آخر.
لقد كنت أستغرب من سرعة، وكثرة انتشار المُجمعات التجارية الكبرى في البلاد، وكنت أظن أن القدرة الشرائية للناس ضعيفة ستكون في عُمان، وأننا سنتأخر عن الجيران بعض الوقت، حتى تنتقل إلينا عدوى التقليد والتباهي، ولكن أرى أنَّ ثقافة التباهي بالإسراف قد انتشرت بسرعة كبيرة، وذلك في ظل ضعف قيادة الإنسان ذاته بنفسه، فأصبح مقودا بالتأثير عن بعد، وإنَّ ثقافة محاسبة النفس للنفس، والتخطيط المسبق مبدأ آخذ في التلاشي من فكر المجتمعات العربية وخاصة الخليجية، ويحل محلها ثقافة الإسراف في كل شيء، حتى صرت أرى بعض قلة يأتون إلى المساجد بسيارات فارهة، فذات مرة كنت أقف مع بعض الإخوة بباب أحد المساجد فقدم إنسان يقود سيارة "روز رايز" إلى المسجد، فعلقت على المشهد بالقول: ألا يخجل الإنسان أن يأتي إلى بيت الله وهو "مسرف" فعلاً؛ أصبح الإسراف يُنسي النَّاس حكمة خلقهم وإيجادهم في هذه الحياة.
إنَّ الإسراف والترف آفة الشعوب وكبْوَتها في الدنيا، وأرى من لا يستطيع أن يتيقن بنفسه أين هو من المسار الصحيح؟ عليه أن يتابع الفتاوي اليومية خلال شهر رمضان المبارك التي يجيب عليها سماحة العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، أو مساعده فضيلة الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساء كل يوم، وستبصِّر هذه الفتاوى الناس في أمر حياتهم ودينهم، وأين الإنسان أصبح من ربه ودينه؟! وهذه دروس تصل إلى الإنسان حيثما يكون مجاناً، فالقنوات الفضائية سهلت على النَّاس عناء السفر لطلب العلم والمعرفة، فصارت تصل إليهم في مكانهم، بشرط أن يعرفوا قيمة اختيار الأفضل ليعبُّ الإنسان من منبع الخير العبُّ الحكيم.
لقد طُمست قيم الصوم وحِكمه، وحوِّل إلى مناسبة سنوية للتجارة العامة، والسياحة واللهو والترف وخيام الشيشة، والمسلسلات المُخلة بالدين، وثورة عارمة ضد القيم والأخلاق، وحتى الأفلام الإباحية تنشط في رمضان، فأصبحنا لا نحتاج إلى غزو عسكري وصلبان ترفع بجوار الرايات ليقضى على الدين الإسلامي، وإنما يكتفى بالإحياء لمترفينا للإفساد، فيستجيبوا حالاً ودون تردد، بل وعليهم أن يتبرعوا من ذاتهم بتقديم خدمات إضافية من عندهم، مثل جغرافية الأرض والسلاح والرجال والنساء والمال والإعلام الماجن، وليس على الغرب إلا أن يُبدع في نشر مخططات هي مدفوعة الثمن من قبلنا نحن الضحايا.
إذن الإسراف في المأكل والمشرب، لا يُعد إلاّ خطوة صغيرة ضمن إستراتيجيات كبيرة للإفساد في الأرض، وقد أصبحت مهنة الفساد في قمة أوجها، خاصة وأن هناك من يتضور جوعاً اليوم، ويُقاسي شتى صنوف العوز والإرهاب والمرض، وهم بشر مثلنا قبل أن يكونوا مُسلمين، وكل ذلك يحدث لهم بيد أناس يُسمُّون أنفسهم مُسلمين، إذن أصبح الانحراف عن الدين شديد الوضوح، وذلك مع سبق الإصرار والتربص، وقد أصبحنا نعيش غربة في الأوطان، وتحت ظلال العروبة والإسلام.
وهنا أعود إلى بداية الموضوع، وهو المُبالغة في توفير المواد الغذائية كلما أقبل شهر الصوم، وكأن الناس يخشون الموت جوعاً في شهر رمضان، رغم أن الحال تغير كثيراً عن أحوال من سبقونا، يوم كان الأطفال يدعون للصوم من أجل أن يزيد عطاء المسجد لهم قصعة تمر، فوقتذاك لم يمت أحد من جوع، أنخاف الموت جوعاً اليوم ونحن في عناية ورعاية "مكيف الهواء" بدءاً من البيت إلى السيارة إلى المكتب وحتى في السوق، ألم يكن أفضل ادخار بعض الريالات للعيد الذي له من التبذير نصيب، أو استقبال العام الدراسي الجديد، أم أن مقولة اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، قد طغت وهي مقولة اليوم على مقولة الأوائل، وهم أكثر تركيز منِّا في قول الحكم والعبر، حيث قالوا: "أدخر قرشك الأبيض ليومك الأسود" وقد كثرت الأيام السود في زمننا، فلا يغرنكم تلوين البنوك لها ففعلهم مُخدر قاتل.
اللهم ثبتنا على دينك وعلى الصراط المستقيم، واجعل عُمان واحة حب وسلام على الدوام، واحفظ جلالة السلطان قابوس المُعظم وأمد في عمره وأسبغ عليه ثوب الصحة والعافية، وأكرم الشعب العُماني الأبي بدوام المحبة، والوئام والتسامح والسلام، وبارك الله لنا جميعاً في صوم شهر رمضان .. وكل عام والجميع بخير.