د. عبدالله باحجاج
تساؤل العنوان يعبر عن اهتمامات الرأي العام العماني وانشغالاته الراهنة، في ضوء تجاذبات بمزاعم استقطاب إمارة دبي لمشاريع صينية ضمن مبادرة طريق الحرير بعد ما كانت مقررة للدقم، ويفسر على أنه انتصار للخارج وهزيمة للداخل، وهذه إشكالية إقليمية تعكس حالة الاستفراد الضيقة، والأنا الإقصائية علما بأن المنافع والمصالح يمكن أن تعم الكل، والكل هنا الدول الست الخليجية التي ترتبط بجغرافيا متداخلة ومتلاصقة، هي في الأصل واحدة، ويمكن من خلال تغليب تكاملية الاقتصاديات الست أن تشكل عمقا اقتصاديا واحدا لطريق الحرير، لو ربطت موانيها ومطارات وطرقها بشبكة بنية أساسية كالسكك الحديدية مثلا.
لكن لا تزال "الأنا الطاغية" هي التي تتحكم في قرارات هذه الدول، مما وجد شأننا الداخلي نفسه مجددا "ولوحده" في قضية جديدة، تغرقه في شد وجذب، وكأنّ قدره شغله بمشاكل متتالية ومتوالية، فما يكاد يغرق في قضية، ويتفاعل معها بوطنية عالية المستوى، وبدرجة الامتياز، الا وتتجدد أخرى، يتفاعل معها بنفس المواصفات الوطنية، ويتناسى السابقة.
هل وراء هذا التوالي من خطة ممنهجة تستهدف مجتمعنا؟ ولماذا؟ التساؤل الأخير يطرح من بعديه، التأمري- إن وجد- والبريء- إن وجد- وهنا لا نلقي اللوم على الخارج، بقدر ما نرميه على الجهات الحكومية المختصة، فصمتها على القضايا المتتالية، يثير الكثير من التساؤلات، فهي التي تملك الحقائق وتبريراتها، وهي التي ينبغي أن توضحها للرأي العام في الوقت المناسب، عوضا عن أن تترك انعكاساتها تؤثر على منظومة سيكولوجية جبهتنا الداخلية عبر هزائم نفسية متكررة، قد تحدث فيها شقوب دائمة- لا قدر الله-.
وهذا يدلل على أنّ هناك إشكالية كبرى في إدارتنا الاقتصادية للمرحلة الوطنية الراهنة، أساسها الصمت، وترك المجتمع وحيدا في وجه الشائعات التي تنهال عليه من الخارج، وحتى عندما خرجت السياسة والدبلوماسية عن الصمت "وباستحياء" غير مبرر، كان شغلها الشاغل الحفاظ على سيكولوجية الخارج على حساب الداخل، مما كان وقعها أكثر وجعا على الداخل، فمن ينبغي أن يكون الأولى بالرعاية السيكولوجية الداخل أم الخارج؟
في تاريخ إدارة بلادنا السياسية، لم يكن "أبدا" الخارج على حساب الداخل، بل العكس، فبلادنا انطلقت أولا من الداخل ومن ثم الخارج، وذلك من منظور أنّ الأولوية الأولى تعزيز الشأن الداخلي وتقوية جبهته وتعزيز وحدته الوطنية بمنظومة قيمية وبمظلة تنموية شاملة، تكون قادرة على استيعاب تحديات التعاطي مع الخارج، لذلك لا ينبغي أن نترك داخلنا الآن يحاصره الخارج بشائعاته أو باستهدافاته أو برؤى في قضايا تمس عمق داخلنا، وتلزم الجهات الحكومية الصمت او تميل في الاعتداد بالآخر فوق مطية الداخل.
رأينا ذلك في قضية التجسس الأخيرة، وفي المزاعم بحقوقنا التاريخية، والآن تظهر قضية سحب الصين مشاريعها من الدقم إلى آخرين، وخروج تغريدات من دولة الجوار، تمجد هذا الانتصار وتعتبره إخفاقا اقتصاديا، وهذا كله يحدث في ظل حالة صمت هذه الإدارة حتى الان، فهل نترك الرأي العام العماني في حيرة من أمره أم نسارع إلى التفنيد والتصحيح وتوضيح الحقائق؟
لابد من كشف الحقائق لدواعي وحدتنا الوطنية، وإلا فإنها تواجه ضربات قوية متتالية ومتوالية.. هي الآن صامدة، صمود جبالها الراسخة، مستشعرة بعمق تاريخها، وبتجذر دولتها، لكن إلى متى؟ الضربات وكثرتها المتتالية تكسر الحديد، وضربتها الأخيرة قوية، وتستهدف العمقين السيكولوجي والاقتصادي للمنظومة الوطنية، ولا غرابة ان ينتاب القلق الاجتماعي على موانئنا البحرية العمانية. وهذا القلق الوطني له ما يبرره، فهو يأتي لرهاناته على موانينا الجيواستراتيجية ودورها في إنعاش اقتصادنا الوطني بعد أن أصبحت الطموحات المستقبلية تراهن عليها كمصادر دخل للاقتصاد العماني، وهذه الرهانات "وجودية" والتعامل معها ينبغي أن يكون كذلك، وقد وجهت الحكومة منذ عدة سنوات جل موازناتها السنوية نحو منطقة الدقم، وتعتبر اليوم أكبر مشروع عماني اقتصادي يتأمل منه أن يكون أحد أهم مصادر تنويع الدخل في بلادنا.
وبالتالي، فهو خط أحمر، ومن هنا، نتوجه إلى المجموعة العمانية العالمية للوجستيات "أسياد" بتقديم توضيحات للراي العام بشأن مزاعم سحب مشاريع صينية من منطقة الدقم إلى دبي، ولماذا "أسياد"؟ لأن الحكومة أسستها عام 2016، لتعظيم الفوائد الاقتصادية والمالية لاستثمارات الحكومة في الموانئ والمناطق الحرة وشركات النقل البحري والبري والخدمات اللوجستية، كما أوكلت الحكومة إلى أسياد مسؤولية تنفيذ الطموحات الاستراتيجية الوطنية اللوجستية للسلطنة، فعليها يقع عبء التوضيح والتنفيذ.
ولتفعيل الأدوار الدستورية للمؤسسات الوطنية، فإن مجلس الشورى ممثلا هنا في اللجنة الاقتصادية، يقع عليها كذلك مسؤولية التدخل فورا في هذا الملف الهام والعاجل، فلابد من تقديم التفسيرات توضح شاركتنا الاقتصادية مع الصين، وبالذات مستقبل الاتفاقية الاقتصادية التي وقعناها في مايو 2018؟ وقد بدأت بكين من خلالها بإقامة منطقة صناعية في الدقم بأكثر من 10.7 مليار دولار. نكرر: قلقنا على حصتنا في مشروع طريق الحرير مشروع، وفتحه هنا، يندرج من موجبات هذه المشروعية، فهناك رأي عام قد بدأ يتجه نحو اليمين واليسار حول خلفيات البيروقراطية المعرقلة والتي قد تؤدي إلى هجرة أو تغيير بوصلة المشاريع عن بلادنا.
ومن المعلوم أنّ لجنة الصين للتنمية والإصلاح قد أدرجت هذه المدينة الصناعية في قائمة المناطق الـ20 النموذجية للتعاون الدولي في مجال القدرة الإنتاجية، واعتبرتها وزارة التجارة الصينية واحدة من 16 منطقة مهمّة للتعاون الدولي في مجال القدرة الإنتاجية، وتم تحديد عام 2022 لبدء العمل في جميع المشاريع في المنطقة الصناعية وعددها 10 مشاريع؛ وهي سوق مواد البناء، ومشروع إنتاج الميثانول لاستخدامه في مشروع الأولفين، وإنشاء محطة لإنتاج الكهرباء، ومحطة أخرى لتحلية مياه البحر واستخراج البروم، ومصنع إنتاج ألواح ومعدات الطاقة الشمسية، ومصنع لإنتاج الأنابيب المستخدمة في حقول النفط والغاز، ومصنع آخر لإنتاج الأنابيب غير المعدنيّة المركّبة المستخدمة في حقول النفط، ومصنع لإنتاج أنابيب الصلب والأسلاك والصلب المقوّى من نوع (بي إي) وقطع الغيار، ومصنع لإنتاج سيارات الدفع الرباعي عالية التنقّل، بالإضافة إلى فندق من فئة الخمس نجوم سيُقام بالمنطقة السياحية بالدقم.
فما مستقبلها؟ التساؤل يحتاج الى إجابة سريعة، وقد يتساءل البعض، لماذا الرهان على الصين؟ فهي تعد قوة اقتصادية صاعدة يقدر حجم اقتصادها بـ10 تريليونات دولار، بينما يقدر حجم الاقتصاد الأميركي بنحو 16.77 تريليون دولار، وباتت مبادرة حزام طريق الحرير، التي أطلقتها الصين عام 2013، تحظى بانضمام عشرات الدول، حتى باتت دول أوروبية كبرى تسعى وراء الاستفادة منها، بينما كانت من أكثر حلفاء أمريكا اقتصاديا في السنوات الماضية، ومن بينها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. ويعد طريق الحرير أضخم مشروع اقتصادي تطلقه الصين، ويشمل مشاريع للسكك الحديدية والطرق السريعة والمرافئ والطاقة تتجاوز قيمتها 1.2 تريليون دولار، ويغطي مناطق الصين وغرب آسيا وأوروبا، وانضم إليه حتى الآن نحو 65 بلداً. ويهدف الطريق إلى إنشاء مسارات تجارية متفق عليها بين عدد كبير من الدول، وبمبادرة اقتصادية واحدة، بحيث يتم تبادل المشاريع والصفقات والأدوات التجارية والمالية وصولاً إلى عولمة جديدة.
من هنا، تتخوف أمريكا على مركزها العالمي، وبالتالي فهي تقود الآن تكتلا عالميا للسيطرة على الطرق والمنافذ الدولية في آسيا وأوروبا وإفريقيا، وهدم جسور الصين بعد أن فشلت في منافستها، والتكتل مكون الآن من أمريكا وأستراليا والهند واليابان، ويقوم بتأسيس بنية أساسية دولية مشتركة كبديل لطريق الحرير، والتكتلان من القوة السياسية والاقتصادية ما يجعلهما يشكلان محوران لنظام عالمي جديد، ومن مصلحة بلادنا أن توظف حيادها السياسي لخدمة موانئها لصالح العالمين معا، وليس الرهان على عالم واحد، فهي دولة سلام، واقتصادها الجديد ينبغي أن يخدم مستقبل السلام.