أمهات الزمن الجميل ... ولكن

 

نورة بنت سيف المالكي

 كلما جلست مع أمي، أُحب أن أعطي وآخذ معها في السوالف بدءًا بما يخص بيتنا إلى أن نصل إلى أبعد من ذلك في محاولة لتلمس الأخبار والأحداث والتعليق عليها، بما يأتي لنا بعظة أو وعي أو فائدة، فأنا مُعجبة بعقلية أمي التي تعرف كيف تجاري الزمن معنا بطلاقة لسانها وقوة حججها أحيانًا، وإن كنت أختلف معها في آراء كثيرة. حينما تبدأ أمي بالحديث باستغراب شديد عن الأبناء الذين لا يبرّون بأمهاتهم، ولا يقومون برعايتهن على الرغم من تكريسهن جل عمرهن في خدمة أبنائهن وتوفير كل ما يحتاجونه، حتى وقد أضحى بعضهم كبيرًا أو متزوجًا ولديه أبناء وربما أحفاد. تسوق أمي أمثلة يدعم تعجبها من فلان وعلان الذين تشتكي أمهاتهم علنًا من تقصيرهم تجاههن ومن سوء المعاملة التي تتمثل في استغلال الأم أوقات حاجتهم دون غيرها، فتصبح أشبه بالخادمة تخدمهم بعيونها ولكنهم لا يُفكرون - قطعًا - أن يخدموها بعيونهم!

تعودت أغلب أمهاتنا من الزمن الجميل على أن يمنحننا - نحن أبناءهن - كل مخزون الحب والحنان والمساعدة، وتكرس كل طاقتها في رعايتنا وتقدمنا فيما تحب إيثارًا على ذاتها حتى تكاد تنسى نفسها فهي تترجم ما قيل: "لا يوجد ما هو أقرب إلى قلب أحد الآباء من صحة وسعادة طفله" ... واسمحوا لي يا قراء ولا تثوروا عليّ، إن قلت إن بعض أمهاتنا من الزمن الجميل بالغن كثيرًا في العطاء والخدمة والرعاية حتى لم يبق ما نقوم به أو ما نتلمس به طريقنا، والأدهى أنهن نسين الاهتمام بذواتهن فأرهقن صحتهن فمرضن وهن في سن صغيرة، وللأسف - وهذا ما يكسر قلب أمهاتنا ولا تعبر عنه - أنه عندما يكبر الأبناء يتركوهن تحت أيادي العاملات أو دور العجزة!

قلت لأمي: "إن سبب عقوق الأبناء وعدم الإحساس بالمسؤولية ولنقل جزءًا منه تتحمله الأم؛ فلقد اعتادت - بوعي منها أو دون وعي - أن تقدم كل شيء لأبنائها سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، على طبق من ذهب ومازالت تفعل ذلك بكرم واسع وبيد مفتوحة، وغفلت من أن تعلمهم في الصغر معنى أن يقوموا بخدمات وواجبات لأنفسهم ولوالديهم بإرادة كاملة وبكل حب، على الأقل، أن يسمحوا لأنفسهم برفع صحونهم إلى المغسلة بعد الأكل ويتعاونوا على تنظيفها!

 كان رد أمي موافقًا لرأيي بعض الشيء، إلا أنها استدركت كلامي بقولها: "إنه قلب الأم يا ابنتي. تقوم بذلك بدافع الحب والخوف على أبنائها، ولا تحب أي أم أن تراهم يحتاجون لشيء، أو لاعتقادها أن تقصيرًا منها قد يدفعهم إلى الانحراف أو السرقة أو ما شابه ذلك"، وأردفت كلمتها المشهورة لي: "حينما تصبحين أمًّا ستعرفين ذلك".

إنني أتفهم كلام أمي، وأفهم ما تفكر به الأمهات، وكيف توجههن غريزة الأمومة إلى تربية أبنائهن بهذه الطريقة، وأعرف أنَّ هذا نابع من حب وحسن نية وتعلق أمومي، لكنني مصرة على المقولة التي تقول: "ومن الحب ما قتل" فكلما أغدقنا الحب على أبنائنا بطريقة بعض أمهات الزمن الجميل فإن إفسادنا لهم يكون هو النتيجة المُتوقعة، فماذا تترجى من ابن فرش له والديه طريقه بالزهر والورد، وكانت الدنيا دائمًا تحت يديه كلما طلبها، يعيش في الجنة تحت ثمار قطوفها دانية وهو يعرف أنَّ كل ثمرة أحسن من أختها بل هي أقرب إليه حتى من نفسه!

وأتفهم أكثر أن اختلاف تربية كل أم لأبنائها، ترجع إلى اختلاف الظروف فأغلب أمهاتنا من الزمن القديم لم تحصل على تعليم مثلما هو متوفر لأمهات اليوم، وأن الوعي في ذاك الزمان أقل بكثير من زماننا المتفجر علومًا ومعرفة خاصة في دراسات التربية الحديثة المعاصرة. إضافة إلى التغيرات في الأفكار والأدوات والآلات والتوجهات والاهتمامات؛ لذلك فإني أعد كل ذلك أسبابًا صريحة أعذر به أمهاتنا المخلصات القاصدات بتربيتهن نوايا خير، فلهن كل الحب والتقدير والأجور العظيمة على اجتهادهن، وأدعوهن طلبًا لا أمرًا - وأنا بمثابة الابنة - إلى تعلم القاعدة من رب الجلالة والعزة: (وآتِ ذا القُربى حقّهُ والمسكينَ وابنَ السبيلِ ولا تبذّر تبذيرًا) (الإسراء: 26 ـ 27) ويقول الله تعالى أيضًا: (وابتغِ فيما أتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ منَ الدُّنيا) (القصص: 77). وليتقبلن مني مقالي هذا بصدر رحب وأختمه بالقاعدة التربوية الحديثة من كتاب (لا مزيد من دفع الآباء للأبناء) التي تقول: "إذا اعتقدت أن الأطفال في حاجة إلى قاعدة ثابتة من الفضائل الأساسية، من المهم أن تتذكر أنَّه من مهامك أن تُدّرس أطفالك مجموعة القوانين والأخلاق، ليس فقط عندما يكونون صغارًا بل عندما يكبرون أيضًا".

تعليق عبر الفيس بوك