اصنع لنفسك ماركة

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

 

في طفولتنا ونحن نبدأ أولى خطواتنا الدراسية، مررنا بقصة النسر والغراب، عندما رأى الغراب نسرا يهبط بسرعة من السماء متجهاً نحو قطيع من الخراف ليخطف أحد الحملان بين مخالبه، ويُحلق بغنيمته في الأجواء، ويقرر الغراب تقليده، فحلق في السماء وهوى بنفس الطريقة، واختار لنفسه أكبر الكباش حجماً حتى يتفاخر أمام باقي الحيوانات، وبعد أن أنشب مخالبه في صوف الخروف حاول الطيران، لكنه عجز عن ذلك تماماً، ثم عاود المحاولة، فكانت النتيجة ذاتها، فتكررت محاولاته دون جدوى، وهنا قرر أن يترك الخروف فكانت المفاجأة لأنه لم يستطع أن يفك مخالبه من تلافيف صوف الخروف، وبقي ملتصقًا بذلك الخروف حتى انتبه راعي الخراف بعد عدة أيام أنّ هنالك سوادا متدلياً على ظهر الخروف، وعندما اقترب منه وجد غرابًا قد فارق الحياة؛ بدأت المقال بهذه القصة لما أجده من قصص محاولات التقليد الأعمى حولي، ويعرف التقليد على أساس أنَّه اتباع الآخرين بالقول أو اللبس أو الأفعال، ويُسمى في كثير من الأحيان بالتقليد الأعمى، وفي أيامنا هذه بات العديد من الشباب يقلدون الغرب في أفعالهم وأقوالهم، غير آبهين إلى أنَّ بعض العادات لا تُناسب مُجتمعاتنا العربية والإسلامية، ويعود السبب الرئيسي وراء ذلك هو أوقات الفراغ القاتلة التي يمر به الشباب، وفي هذا المقال سأتحدث عن التقليد فيما بيننا، والذي يسبب العديد من الأضرار منها عدم الالتفات إلى المواهب الشخصية وعدم تنميتها، وبالتالي طمسها وإضعافها، الابتعاد عن المبادئ والدين، والانجراف وراء النزوات المختلفة من أجل إشباع رغبة مرضية دفينة، الضرر النفسي، إذ يُمكن أن يُسبب أضراراً نفسية بالغة للشخص، إفساد الأخلاق، ولن أحصرها على جنس دون الآخر، فعلى سبيل المثال لن يختل الكون من حولك إذا اشترى صديقك مركبة جديدة، لتذهب أنت وتقترض وتتكبد الديون لشراء مركبة مُماثلة لها، ليُقال إنك تمتلك المال الذي يُمكنك من شراء سيارة فارهة، ولن يصمك النَّاس بالعار لأنَّ ابن عمك أصدر كتاباً وأعقبه بآخر، لتركض أنت وتستأجر قلماً ليكتب لك كتاباً باسمك فيقال فلان كاتب، ولن تتوقف الأرض عن الدوران إذا كانت قريبتك قد اقتنت حقيبة ذات ماركة معينة، لتسارعي ببيع قطعة من مجوهراتك لشراء مثيلتها، حتى لا تنظر إليك النسوة على أنك غير قادرة على اقتناء أختها، فلان جارك سافر في الصيف مع أسرته، لتصر زوجتك أنك إن لم تفعل ذلك فإنك مقصر في حقها وحق أطفالك، إلى آخرها من الأمثلة الكثيرة في التقليد الأرعن، واسمحوا لي أن أطلق عليه هذا الوصف، لأنّ المقلد يملك البصر والبصيرة، لكن الرعونة المغموسة في الغرور والغباء تجعله يتخذ هذا القرار.

إن شركات الماركات المختلفة، وبيوت الأزياء المعروفة، ومشاهير مصممي المجوهرات، وشركات السيارات الكثيرة، وعالم الأجهزة الذكية والإلكترونية، كل أولئك لم يصنعوا أسماءهم من فراغ، بل اجتهدوا كثيرا، كما إنهم مستمرون في بذل الجهد للبقاء في القمة، أو حتى في مصاف صناعاتهم وإنتاجهم، ويبتعدون تماماً عن التقليد، بل يفاجئون زبائنهم بالمثير والجديد، وهذا ما يعزز مصداقيتهم لديهم.

 

إن في اختلافاتنا جمال إلهي، حيث خلقنا تعالى مختلفين لأنه يحبنا، ورغم اختلاف الألوان والأشكال والأعراق والتفكير، لم يخلق سبحانه وتعالى إلا كل جميل، ولو شاء - تعالى الله في صفاته- لخلقنا نسخا متشابهة من بعضنا البعض، لكنه لحكمة لا يُدركها إلا هو -جلَّ في علاه- جعلنا مُختلفين، جعل لكل منِّا ماركته المميزة، فقد قال في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الآية 13، سورة الحجرات، لذلك كلنا سواسية، وجاءت التقوى لتكون هي معيار المفاضلة بين الخلق أجمعين.

"من راقب النَّاس مات هماً"، إن هذا المثل يضبط لنا بوصلة رؤيتنا، وزوايا أحداقنا، كي لا ننظر إلا لأهداف نصنعها ﻷنفسنا، ونركز على أن نحقق هذه الأهداف من خلال خطط نضعها وننغمس في تنفيذها، ومن هنا نصنع الماركة الخاصة لكل شخص منا، وذلك باكتشاف السمة التنافسية المستدامة الموجودة بداخلك، وهذه السمة مرتبطة في عصرنا هذا بالشركات أو المؤسسات أو حتى البلدان، ولكن يمكن تطبيقها على الأشخاص، فلكل شخص منّا سمة تختلف تمام الاختلاف عن غيره، ولكن عليه أن يسبرها ويكتشفها، ويركز على تطويرها وإبرازها لينفع بها البشرية، فعلمك وشهاداتك لك، ولن يكون لها أي قيمة إلا إذا نفعت بها الناس، وأخلاقك وتربيتك لن تعرفها إلا إذا رأيت انعكاس تعامل الناس معك، وإذا تأكدت من صدقك في كل ما تقوم به، انس أولئك الفئة من المحبطين، وابتعد عن طفيليات البشر الذين يزينون أي فعل أو قول حتى وإن كان قمة في الإسفاف.

 

----------------------------

 

توقيع:

"عندما أخبرته أن قلبي من طين

سخر مني، لأنَّ قلبه من حديد..

قريباً ستمطر، سيُزهر قلبي، وسيصدأ قلبه."

شمس التبريزي.