"الحياة من دوني" لعائشة البصري.. رواية الجسد في سوق الحرب (1- 3)


أ.د/يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات
أولاًـ تمهيد:
تحكي رواية "الحياة من دوني" للكاتبة المغربية عائشة البصري عن الغزو الياباني للصين، وما خلّفه من آثار على المجتمع عامة، وعلى النساء خاصة، من خلال شخصيتين أساسيتين هما قوتشين وجين مي، وهما توأمان صينيان، لم تترك لهما الحرب حرية اختيار شكل حياتيهما.
ولدت جين مي وقوتشين في قرية جسر تشو لانغ التي تقع قرب مدينة نانجينغ أكبر مدن مقاطعة جيانغسو عام 1919، وعانتا، مثلما عانى مجتمع قريتهما من حراب اليابانيين ونزواتهم، فقرر أبوهما الرحيل إلى نانجينغ في حدود عام 1937. ولم يكن الخوف من الموت هو الدافع للهرب، بمقدار ما كان الخوف من العار الذي سيلحق بالعائلة نتيجة اغتصابات محتملة أدمن الجنود اليابانيون القيام بها في أي قرية تطؤها أقدامهم في حرب موازية لا يهتم بها المؤرخون كثيراً. تتساءل قوتشين:
"ماذا يعرف المؤرخون عن تلك الحروب الموازية؟ هل أحصوا بدقة قتيلات تلك الحروب، قتيلات طمرت جثثهنّ كموتى لا ينتمون لأحد؟ هل يعرفون كم امرأة اغتُصبت، وكم امرأة قُتلت على أَسِرّة مجهولة؟ وكم امرأة جُنّت أو انتحرت من الذلّ؟"، ص23.
وبعد الوصول إلى نانجينغ تفترق الأختان؛ تبقى جين مي في نانجينغ، وتتزوج، وتعيش حياة مستقرّة نسبياً، وتموت متأثرة بسرطان الرئة عام 1986، ويوضع رمادها في جرّة خزفية كانت لها: "طلبتُ من خزّافٍ معروفٍ أن يصنع لي جرة بلون قرمزي، ويزينها برسوم بماء الذهب، لأزهار اللوتس المباركة، وأكدّتُ عليه ان يترك الطين تحت السماء، ثلاث ليال مقمرة، فأبدع لي تحفة نادرة"، ص19.
بينما تغادر قوتشين إلى سايغون خادمةً مع تاجر السلاح اليهودي الفرنسي باريير الذي يتتبع خريطة الحروب، ويشمّ رائحة الدم من بعيد. غير أن باريير يتركها وحيدة، ويغادر فيتنام مع عائلته حين يدرك قرب انتهاء الوجود الفرنسي هناك. وهكذا تجد قوتشين نفسها وحيدة في أتون حرب جديدة، فتحترف أقدم مهنة عرفتها النساء، بمساعدة ديين ابنة حارس البيت الذي كانت تسكنه أسرة بائع السلاح الفرنسي، حيث كان عليها أن تنسى ذكرياتها، وترتدي قناعاً لم يألفه وجهها: "كان عليّ أن أنسى كل الذكريات، وأنسى من كنتُ، ومن عرفتُ، أن أغمض عينيّ حتى لا أرى مأساتي الشخصية، ولا مأساة شعب آخر أعيش بينه. كان لا بد أن أضع قناعاً سميكاً على وجهي"، ص106.
وإذ تختفي ديين، أو تُقتل، تنزع قوتشين قناع العبث وترتدي قناع العفة، وتعمل في محل لشركة باطا للأحذية، إلى أن تلتقي بمحمّد الذي انتشلها في ربيع 1951من تحت أنقاض مبنى تدمّر جزئياً بفعل تفجير استهدف فندق كونتاننتال بَلاس؛ حيث ينزل السياح الأجانب والضباط الفرنسيون. لقد وقعت قوتشين في حبّ أصغر من طموحها، غير أن حبيبها محمد أُسِرَ من قبل الفيت مين، واختفت أخباره زمناً، ثم عاد؛ ليسافر مع قوتشين إلى المغرب عن طريق فرنسا عام 1957، وتبقى فيه حتى 2001، ثم تغادره إلى الصين، وتأخذ من قريبتها آن آن جرّة رماد جين مي، وتحتضنها "أخيراً حضنت أختي جين مي"، ص222، وتعود إلى المغرب، في خريف 2001، حيث يفتح العالم شدقيه لحرب جديدة بعد أحداث سبتمبر.
لم تجد قوتشين ذكرياتها حين عادت إلى الصين، فعادت إلى المغرب غريبة عن نفسها غريبة؛ لتتابع حياتها أرملةَ زوج عربي كان يخبّئ جسدها "في جلباب العفّة"، ص135، لذلك تقول: "مت في الثالثة والثلاثين من العمر. عملياً انتهت حياتي حين وطئت قدماي درج الباخرة المتجهة إلى المغرب"، ص159.
وإذا كان السرد يتساءل عن سبب انتحار قوتشين في الرابعة والتسعين من عمرها؛ فإنّ الإجابة تحيل إلى غربتها عن المكان وعن الأشخاص الذين تعيش بين ظهرانيهم: "هناك أمكنة لا ننتمي إليها، حتى لو سكنّاها عقوداً. فلكيمياء الجسد دخل في الموضوع. كما أنّ هناك أشخاصاً لا نعرفهم حتى لو تساكنّا معهم سنوات"، ص176.
على أنّ هذا السرد التعاقبي للحكاية ليس إلا عرضاً اجتهادياً منّا، لمحاولة تركيب موضوع لعبة السرد التي تداخلت فيها الأزمنة والامكنة بشكل مثير، لا لتروي حكاية جين مي وقوتشين فحسب، بل لتروي حكايات أخرى عن الحب والحرب وشبق الجسد، وشهوة الدم، حكايات لا تشكّل عبئاً على الحكاية العامة، بل تتداخل معها؛ لتسهم في إضاءة جوانب أخرى من ظلام الحروب التي جلّت الرواية بعض آثارها.
تحكي جين مي حكاية غريبة انتشرت بين الناس في قرية فرغت من الذكور الذين التحقوا بالحرب؛ حيث سقط طيار ياباني بين الأحراش، فقيّدته امرأة حتّى يعود الرجال. وبمرور الوقت استأنست المرأة بالرجل وأحبته، وحين علمت أن المقاتلين يبحثون عنه، وأن الموت هو مصير حبيبها المحتوم، قرّرت أن تخفف من بشاعة موته. لقد خشيت أن يقطعوا "رأس الياباني الوسيم، بشعره الأسود الكثيف، ولونه القمحي وعينيه السوداوين، فوضعت له الزرنيخ في حساء العشاء. في الصباح قبّلته، ثم دفنته في حوش البيت"، ص33.
وثمة حكاية أخرى رأتها قوتشين مكتوبة تحت صورة في متحف ذاكرة الحرب في نانجينغ، في أثناء عودتها القصيرة إلى الصين عام 2001، وهي تحكي عن طبيب ياباني رأى في يوم ثلجي جسدين ملقيين على التراب، يبدو أنهما تقاتلا حتى أُنهكا، فحاول هو أن ينقذ الاثنين، غير أنّ الياباني الذي يحتضر همس للطبيب: "أخي، إنه صيني فاقتله"، ص248، ولكن الطبيب أراد أن يعالجهما معاً غير أنهما لم يكونا بحاجة لعلاج أو قتل. فقد توفيا معاً. بعد ذلك جمع الطبيب من الجنة البنفسجية التي تحيط بهما كثيراً من الأزهار ، من أجل أن يحفظ البذور ويحملها إلى اليابان رمزاً للسلام، وقرر أن يسميها "أوركيديا فبراير"، وهو "اسم الدلع" الذي كان يطلق على جين مي شبيهةِ تلك الزهرة البنفسجية في طفولتها وصباها.
ثانياً ـ في فضاء الحرب:
في الفضاء الروائي تبدي الكاتبة اهتماماً بالفضاء الطباعي والجغرافي والدلالي، وتؤثث أمكنتها، وتؤسس لعلاقات دالة بين الزمن والمكان؛ ففي الفضاء الطباعي تطالعنا الكاتبة بعنوان مثير للخيال، يحتاج إلى قراءة للرواية، فالحياة ها هنا تعرض في جزء منها بعد وفاة جين مي، وتصفها المرأة المتوفاة، من خلال رماد جرّتها الذي أضحى سارداً، على نحو ما نرى في السرد التالي لجين مي بعد عشر سنوات من وفاتها: "أتابع الحياة من دوني، من خلال كلامهم، ومن خلال صمتهم أيضاً"، ص20.
ويمكننا أن نلاحظ أن هذا العنوان يحيل إلى الشخصية الأقل حضوراً بين الشخصيتين، وربما كان من الأفضل أن يحيل العنوان إلى قوتشين بشكل ما، ليقابل وزن الشخصية في الحكاية؛ وإن كنا لا ننكر ما لهذا العنوان من طاقة دلالية ضافية.
وتحتلّ الغلافَ لوحةٌ ذات أبعاد حقيقية، في موضوع لا يحتاج إلى الرمز كثيراً، فاللوحة التي تتضمن صورة فوتوغرافية لفتاتين صينيتين تحتلان المشهد، بخلفية من مدينة مهدمة بفعل الحرب، تشير إلى محتوى الرواية العام دون مواربة؛ لتأتي، بعد ذلك، العتبات النصية التي تُفتَتَح بها الرواية من أجل تخصيص المحتوى ؛ ليشير إلى أننا مقبلون على قراءة رواية تفرد لمعاناة الأنثى في الحروب دوراًكبيرا؛ فقد جاء الإهداء "إلى ضحايا اغتصاب الحروب"، ص5.
ثم  جاءت ثلاث عتبات أًخر لأدباء فرنسيين وأمريكيين، جاء فيها:
•    "من فظائع الحرب أننا ننسى تحييد جسد المرأة"، ص7.
•    "أحلم باليوم الذي يأتي فيه طفل، ويسأل أمه: كيف كانت الحرب؟"، ص7.
•    " كل الحروب هي حروب أهلية؛ لأنّ البشر إخوة"، ص7.
أمّا فيما يتعلّق بالفضاء الجغرافي فقد جاء مناسباً للشخصيات، معبّراً عن مواقفها، فمدينة نانجينغ مثلاً لم تعجب قوتشين لأنها بلا بحر، بينما تبهرها مدينة سايغون، وتحيي في ذاكرتها حلم باريس. لنتأملْ السياقين التاليين، لكل من نانجينغ وسايغون من وجهة نظر هذه الشخصية المتمردة:
•    "لم ترق لي مدينةُ نانجينغ، فبالإضافة إلى مخلفات الحرب كانت مدينة بلا بحر. والمدينة بلا بحر هي مدينة بلا أبواب"، ص70.
•    "البيوت المزخرفة بالجص، وسقوف القرميد الأحمر، الشرفات المزيّنة بالتماثيل الرخامية، الفنادق الفاخرة، السيارات المكشوفة، الرجال بالسراويل القصيرة، والنساء بالفساتين الأنيقة"، ص94.
وقد ركّزت الكاتبة تركيزاً كبيراً على تقاطبية المكان، وعلى أثر  الزمان في تغيير صفاته، فقد سعت أكثر من مرة إلى إبراز التعارض بين قطبي الغنى والفقر من خلال المكان الجغرافي؛ فثمة تقاطب مكاني بين قرية جسر تشولانغ ومدينة نانجينغ يجعل الأم " تتوه بمجرّد أن تخطو خارج البيت. امرأة تعوّدت على قرية صغيرة، وعائلات معروفة، وأزقّة ككف اليد.. ضاعت وسط مدينة كبيرة"، ص71. وثمة تقاطب مكاني آخر نجده في وصف مدينة سايغون التي يرد فيها وصفانمن قبل قوتشين، وصف باريسي مرّ معنا سابقاً، مدعوم بوصف آخر لموقع ممتاز على النهر، ووصف يثير الحزن في النفوس:
•    "فُتنتُ بموقع المدينة على ضفّتي نهر سايغون، أنا مائية الهوى، أينما كان الماءُ أكون [كذا في الأصل]، قضيت صباي على ضفاف نهر اليانغستي وشربت من مائه. جسدي يشبه نبتة الأرز كلما ازدادت كثافة الماء ازددتُ نضجاً وجمالاً"، ص95.
•    "اكتشفت حياة أخرى، حيث الفقر والموت بالتقسيط. أطفال يتامى شبه عراة وحفاة يجوبون الشوارع بحثاً عن فضلات أو صدقة، يبيعون الدمى الخزفية والفواكه الجافة كتسوّل مقنّع"، أو يجولون ببالونات إشهار مقابل بضعة نقود، لأطعمة لن يأكلوها، لمواد تنظيف لن يستعملوها، وعلامت ألبسة لن يلبسوها"، ص102.
أمّا أثر الزمن فيتبدى على الأماكن من خلال صور متعددة، فالساردة الخارجية تصف سوق درب عمر ـ وهو مركّب (مجمّع) تجاري يتوسط مدينة الدار البيضاء، بات يسمّى سوق الشينوا ـ بعد  ثلاثين عاماً من انقطاعها عنه، فتقول: "دهشتي كانت كبيرة، البنايات والشوارع والمحلات لم تتغير، لكنّ الباعة تغيّروا تماماً، كما البضاعة. أصحاب المحلات كهم صينيون وصينيات، باستثناء بعض مساعديهم من المغاربة الوسطاء او الحمالين"، ص11.
وقوتشين التي تترك الصين تعود إليها بعد أربعة وأربعين عاماً؛ لتبرز في سردها هذا التعارض الكبير بين قطبي الحرب والسلم؛ حيث تم التنقل بينهما بفعل الزمن، فتقول عند وصولها إلى مطار بكين: "لم أتصور التقدّم الحضاري الذي وصل إليه بلدي، إلا وأنا أنزل في مطار بكين. كان المطار ضخماً ومتطوراً"، ص211.  وعندما تصل لاحقاً إلى مطار نانجينغ تقول: "وصلتُ، أنا وآن آن، إلى مطار نانجينغ في الثامنة ليلاً. رجفة في القلب تلتها تنهيدة عميقة. لا أثر للجروح. شعب آخر استيقظ من موته وأخذ طريق الحياة"، ص217؛ لذلك تبدو عاجزة عن الربط بين صورتي الماضي والحاضر في كثير من الأحيان: "صورتان عجز عقلي عن الربط بينهما، صورة النهر وحيداً، ظلمة الأزقة، رائحة البارود والجثث المتعفنة؛ وصورة الأانوار الزاهية، الموسيقى والرقصات الطائرة.."، ص225.
مثل هذا التقاطب المكاني يتجسد في الزمان أيضاً؛ فالمسافة "التي استغرقت منا في زمن الحرب، أنا وعائلتي سنة كاملة بين قرية جسر تشو لانغ ومدينة نانجينغ، قطعتها الحافلة في ساعتين"، ص233. ومثل هذا الأمر كان كافياً ليهزّ الشخصية من الداخل، حتى إن التسميات الجديدة كان تزلزل أعماقها: "وقفت بنا الحافلة أمام المدخل. من النصب الحجري الرمادي الذي كُتب عليه بالأحمر "تشو لانغ تشاو سْوِن" عرفت أنها لم تعد قريتي"، ص134؛ لذلك كان طبيعياً أن تعود إلى المغرب مرة أخرى، فقد أضاعت وطنها مرتين.
(يتبع).....

 

تعليق عبر الفيس بوك