إلى روح "علياء" التي رحلت دون وداع

 

مسعود الحمداني

أمِّي الغالية.. أيتها المسافرة وحيدة نحو السماء لِمَ رحلتِ باكرا؟!! لِمَ تركتيني دون وداع، هاتِ يديك كي أقبلها، أو جبينك كي أطبع عليه قبلة ليست أخيرة، كُونِي هُنا في القلب الذي تركتهِ قبل الأوان، اشعلي حناجر البكاء، وابعثي لي من السماء قبلة بيضاء، أنا الذي أمسك بالحياة بسببك، وأتيتُ أحمل في يديّ قبضة من تراب الحب كي أنثره في هذه الدنيا، أنتِ التي منحتِني الضحكة الأولى، والدمعة الأولى، والحب الأول، والفجر الأخير.

وضعتُ كَتفي على صَدرك الحاني، وسمعتُ أن الدقة الأخيرة لم يعد لها من صدى، فاكتشفتُ أنَّ العالم أصبح ضيِّقا كخرم إبرة، وعرفت أن الحلكة قد حلّت في القلب، وأنك لن تعودي من رحلتك التي لا يحمل المرء فيها زادا، ولا شرابا، ولا هواء، ويذهب إليها وحيدا من كل شيء إلا ما قدمت يداه، ينتظر أحبته هناك عند المليك كي يفيضوا عليه من الماء، والرحمة، ينتظر الأرواح القريبة، والدعوات الصادقة، ولا يملك من أمره شيئا.

أمي العزيزة التي رحلت دون وداع، ودون رفيق، ها أنتِ تطلّين عليّ بابتسامتك التي تشرق كروحٍ بسيطة، تُسقطين كلّ مواجع الفؤاد، وتسافرين كنجمة في سديم الملكوت، يغتالك الموت من بين أيدينا، ولا يترك لنا فرصة للهرب، أو الاستعداد، أو البكاء.. لَم تكوني سوى غيمة على أرضٍ لا تسع الأنقياء، تفتح ثغرها لتضم الأحبة الذين نزفنا لهم دم العين، ودمع القلب، تباركين أرواحنا المرهقة من وعثاء الحياة، وتنشرين على أفئدتنا ظلال الحب الذي ما عاد هو ذاك الحب، وترسمين بابتسامتك فراشات من الألوان والعطاء.

لمن سأرسل ما أحب؟.. لمن سأقول "أمي"؟..لمن سأنتظر بعدك؟.. لمن سأبعث حرقة فؤادي؟.. ولمن سأنظر حين تظلم الدنيا علي وتغيب القبلات؟.. أيتها الشفافة كروح غالية، توقفي قليلا فهناك الكثير من الحب، وهناك الكثير من المفاجآت التي تحبينها.. وهناك الكثير من الدمع الذي لا يُسكب إلا لغالٍ مثلك، ارجعي قليلا فهناك ما أود قوله لك، هناك سرٌّ لم أبح به بعد، هناك كلمة يغصّ بها فؤادي لم أحكها، هناك هدية صغيرة من "يوم الأم" لم أقدمها لكِ، هناك حكاية ما زالت مخبأة بين شفتيك أنتظر سماعها، هناك أنا الذي أرهقته السنوات يحتاج إليك كي تمسدي شعره لينام قبل فوات الروح.

أمي الغالية.. ما زال صوتك الواهن يرن في أذني، ما زال جرس خطواتك يمشي قريبا مني، لا تزال مسبحتك، ورائحة عطرك تفوح في المكان، ما زلتِ هنا لم تغادري المنزل الذي اشتاق إليك، فأنتِ من تهبين لنا البركات، وتمنحين قلوبنا نبضها الشفيف، لكنه الموت الذي يباغتنا في اللحظات غير المناسبة، فيسلبنا أعز أحبتنا، ويأخذه من بين أيدينا دون إذنٍ مِنَّا، يا له من ضيف ثقيل وقاسٍ، ومخيف.

لماذا لم يَعُد القلم ينزف دمعه كما كان؟.. لماذا تهاوت الكلمات من بين يديّ؟.. لماذا لم يعد هناك متسع من الكلام؟!! ربما الغياب المباغت الذي يفاجئنا على حين غرة ويتركنا أشلاء دون يدين أو عينين أو شفتين، إنه الفراق الذي نشعر به علقما في أفواهنا، ونسدل عليه جناحا من الذل، ونقف أمامه بخضوع واستسلام، ولكني أعدك يا أمي الغالية أن آتي إليك ذات يوم محملا بالهدايا والعطر لأسكبه هناك؛ حيث ينام الأنقياء والأتقياء دون أن يشعر بهم أحد.

أمي الغالية، نامي بسلام حيث أبي وخالي وأمك وأحبتك الذين سبقوك إلى السماء.. واعذري هذه الكلمات التي تقصر عن حقك، وأيقني أن هناك من يُحبك، فلا تقلقي.. أنتِ بين يدي الله.. أستودعك الرحمن الرحيم الذي لا تضيع ودائعه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

تقبلي قبلاتي وحنيني وشوقي لكِ...،