دبلوماسية الحكمة والحق

حاتم الطائي

 

 

السياسة الخارجية العمانية ترتكز على مبادئ السلام والتعايش

عُمان تلتزم الشفافية والشجاعة في إعلان المواقف إنحيازًا للحق

دبلوماسية عُمان تستند إلى الأفعال لا الأقوال

 

 

خَطَّ حضرةُ صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظم- حفظه الله ورعاه- سياسة خارجية مُستقلة، ثابتة على المبادئ العمانية المتجذرة في أصولها الساعية نحو السلام والتَّعايش، مُرتكزة في جوهرها على ما يُؤمن به جلالته- أيده الله- من أفكار رائدة تضمن الاستقرار والرخاء متى ما تمَّ تطبيقها، ولقد تجلَّت هذه الرؤية السامية الحكيمة في العديد من المواقف السياسية المُشرفة منذ بزوغ فجر النهضة المُباركة وحتى يومنا هذا.

وتُمثل هذه السياسة الخارجية أيضًا انعكاسًا لنهج القيادة العمانية في جميع الملفات، بما فيها الملف الداخلي، وطريقة إدارة شؤون الدولة العمانية بحكمة غير مسبوقة ووفق آليات عمل حازت إشادات الجميع؛ في الداخل والخارج، فتحقق ما ننعم به الآن من تنمية شاملة عمَّت ربوع الوطن واستقرار واستدامة في منطقة ملتهبة.

والحديث عن الدبلوماسية العمانية يحتاج إلى مُؤلفات وعمل بحثي مطوّل، لا تستوعبه مقالات الرأي أو افتتاحيات الصحف، لكنني أحاول قدر الإمكان إيجاز عوامل قوة هذه السياسة وتسليط الضوء على الموجهات العامة لها، والتي تتبلور وتُشكل ما يظهر لنا من المواقف العمانية المشرفة في مُختلف القضايا الإقليمية والدولية. وقبل أن أتطرق لهذه العوامل والمحددات، ينبغي الإشارة إلى أنَّه في مختلف الحقب الزمنية على طول التاريخ العماني الضارب في القدم، لم تكن السياسة العمانية الخارجية إلا رسول سلام وسفير إخاء واستقرار لشعوب المنطقة والعالم، ولم يذكر التاريخ يوماً أنَّ عُمان كانت دولة معادية لأخرى، كما لم تُغر عمان على أي دولة قط، حتى عندما توسعت الإمبراطورية العُمانية في قمة مجدها في قرون سابقة، لم يكن ذلك قائمًا على توسع عسكري أو احتلال، وإنِّما من خلال الحكم الرشيد والسياسات العادلة والتجارة الأمينة مع الدول التي وصلت إليها السفن العمانية "أسياد البحار"، فكان الاحتماء بمظلة الإمبراطورية العُمانية لجوءًا إلى الحق، وطلبًا للاستقرار في كنف هذه الدولة التي حققت نجاحات لم تُكتب لغيرها من الدول.

ولذلك فإنَّ أول عوامل قوة السياسة الخارجية للسلطنة، تتمثل في الصراحة والشفافية، فعُمان تلتزم الشفافية في الطرح والوضوح في الإعلان عن مواقفها، بجرأة وشجاعة مُنقطعتي النظير، فالحق الذي تنحاز له عمان دومًا نابع من إيمان عميق وراسخ في نفس القائد الحكيم، جلالة السُّلطان المعظم- أبقاه الله-، بأنَّ ما يتم اتخاذه من قرارات ومواقف تخدم استقرار ونماء الدولة العمانية، وتعزز جهود السلام والعيش المشترك مع الجميع، لاسيما في منطقتنا التي تعصف بها الصراعات والحروب والفتن. وعندما نتتبع مواقف الحق العمانية منذ سبعينيات القرن الماضي، نجد أنَّ الجميع كان يبدي اندهاشه الشديد من بُعد نظر القيادة الحكيمة، ورؤيتها الثاقبة للأمور، فكانت بلا ريب إنعكاساً لرؤية حكيمة.. فبعد انتصار مصر في حرب أكتوبر 1973 على إسرائيل واستعادة الأراضي المصرية، وقعت القاهرة في سبتمبر 1978 معاهدة كامب ديفيد الشهيرة، والتي بسببها قاطع العرب مصر، إلا السلطنة، التي أبت ألا تقطع العلاقات مع الشقيقة الكبرى، وبعد عشر سنوات اجتمع العرب مجددًا في قلب القاهرة لمواجهة التحديات آنذاك وفي مُقدمتها حرب الخليج الثانية. واليوم يُمكننا أن ندرك الحكمة السياسية والمعاني المترسخة في عدم مقاطعة مصر.

ولذلك أعلن جلالة السلطان المُعظم صراحة وبكل قوة "إننا أظهرنا للملأ أننا نُؤيد وسنُواصل تأييدنا الصادق لجميع المُبادرات التي تهدف إلى ضمان سلام دائم وعادل في الشرق الأوسط"، وذلك بعد نحو شهر تقريباً وتحديداً في الخطاب السامي بمُناسبة العيد الوطني الثامن المجيد في 18 نوفمبر 1978. هذا هو الثبات العماني على الموقف، السياسة الخارجية للسلطنة ليس لديها ما تُخفيه من مواقف أو ما قد ترفض أن تُعلنه على الملأ، إنِّها عمان الحق والسلام والاستقرار.

وخلال الأيام الماضية، أدلى معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية بسلسلة من التصريحات لوسائل إعلام دولية، أكد خلالها هذه الصراحة المعهودة للدبلوماسية العُمانية التي يقودها جلالة السُّلطان المُعظم، وهي تصريحات اتسمت بالشفافية والوضوح غير المسبوق لدولة عربية في سياستها الخارجية، سواء فيما يتعلق بملف السلام في الشرق الأوسط وحقيقة العلاقات مع إسرائيل، أو الملف اليمني أو الأزمة الخليجية.

إنَّ عُمان ترفض التحزب وتُؤمن عن قناعة راسخة بأنَّ وحدة الصف هي السبيل الوحيد للنهضة والتنمية الشاملة في المنطقة، وأنَّ السلام خيار إستراتيجي، وليس سياسات ربما تتغير بتغير الظروف.

عنصر القوة الثاني الذي يزيد من صلابة السياسة الخارجية العمانية، هو التوازن والحياد الإيجابي، فلم تنحز عُمان يوماً لطرف دون آخر، ولم تتراجع قيد أنملة عن حيادها المعهود، والذي وصّفه معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية بأنَّه "الحياد الإيجابي"، ذلك الحياد هو الذي جعل عُمان طرفاً مؤتمنًا من قبل القوى العالمية من جهة وإيران من جهة أخرى. فكانت مسقط غرفة اجتماعات كبيرة لمفاوضات سلام طويلة تكللت بالنجاح والتوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني. وكان هذا الحياد أيضًا سببًا في أن تولي الأطراف المتصارعة في اليمن جل ثقتها وقناعتها بأنَّه لا أحد يستطيع أن يُسهم إيجابًا في حرب اليمن سوى سلطنة عمان التي وقفت على مسافة واحدة من جميع الأطراف المنخرطة في الصراع، سواء كانت داخلية أم خارجية. وتكرر ذلك المشهد أيضًا في الأزمة الخليجية، واتسمت المواقف العمانية إزاء هذه الأزمة بالتوازن والحياد، حتى عندما أطلق البعض علينا هجومًا بسبب موقفنا المُحايد لم نلتفت، وآثرنا الاستمرار فيما نؤمن به من مواقف ونتحلى به من قيم ومبادئ.

والدبلوماسية العُمانية هي دبلوماسية أفعال لا أقوال، إنِّها سياسة خارجية قائمة على الفعل والتحرك والسعي الحثيث من أجل تقريب وجهات النظر بين مُختلف الأطراف في أي قضية كانت، وهنا استطيع أن أصف هذه السياسة بـ"البراجماتية"، فهي براجماتية المواقف والخطوات والإجراءات، لم تكن السياسة الخارجية العمانية قائمة يومًا ما على التصريحات العنترية أو الفرقعات الإعلامية هنا وهناك، بل إنَّ عُمان لا تُعلن عن أي خطط لها سوى بعد أن تُكلل بالنجاح. ولا عجب من ذلك، فدولة توظف سياساتها الخارجية من أجل خدمة السلام ونشره في ربوع العالم، وليس المنطقة وحسب، لا تستبق الأحداث وتسعى نحو "إثارة إعلامية" ولا تستهدف جني ثمار أي موقف تتخذه؛ إذ إنِّ هذه السياسات سياسات أفعال وليست سياسات أقوال وتصريحات وحسب.

أصل إلى عامل القوة الرابع وهو "دقة المصطلح وفصاحة البيان"، فسياسة السلطنة الخارجية تدرك جيدًا الأبعاد والمعاني العديدة للألفاظ في عالم السياسة، ومن هنا كان الحرص العماني الحكيم على استخدام ألفاظ ومُفردات ربما أجزم أنها وثيقة الصلة بالدبلوماسية العمانية حصرًا، فما من لفظ أو مصطلح يصدر على لسان أي مسؤول إلا وأنه يقدم المعنى المستهدف والمقصود، دون أن يترك مجالاً للتفسيرات الأخرى أو التأويلات غير الحقيقة أو التخمينات غير الدقيقة. واستشهد هنا بتصريحات معالي يوسف بن علوي أيضًا، عندما تطرق في آخر لقاء إعلامي له وذكر فيه أنَّ عُمان أبلغت إسرائيل "بكل صراحة ووضوح" أنَّه لا أمان لهم دون قيام الدولة الفلسطينية، وأيضًا تأكيداته بأنَّ "الفلسطينيون قادرون على المقاومة، وأن الإسرائيليين ينتابهم القلق". ولعل المصطلح الأكثر وضوحًا وصدقاً في تلك التصريحات الإعلامية ما ذكره معاليه بأن منطقة الشرق الأوسط تشهد "بداية النهاية لألعاب كبرى"، ولم يقُل معاليه مثلاً "مؤامرة كبرى" أو "مُخطط كبير" أو غيرها من المصطلحات الدارجة في القاموس العربي، وهذا يعكس الرؤية العُمانية الحقيقية للأوضاع في منطقتنا الملتهبة، وأن ما حدث من زرع لتنظيمات إرهابية في المنطقة وسقوط أنظمة والإتيان بأخرى ومحاولات تقسيم الدول إلى دويلات طائفية وعرقية في إطار ما كان يُعرف بـ"الشرق الأوسط الجديد"، كل ذلك لم يكن سوى "ألعاب كبرى"، وأنها وصلت خط النهاية الآن.

ختامًا أقول.. إنَّ الدبلوماسية العمانية باتت الآن محط أنظار الجميع حول العالم، الجميع يسعى للنهل من نهر الحكمة العُمانية الذي يفيض صراحة وشفافية، حتى بريطانيا العظمى "تتعلم الكثير من حكمة جلالة السُّلطان" حسبما أكد معالي وزير الدفاع البريطاني قبل أيام.. فهل يُدرك النافخون في نيران الحرب أنَّه لا بديل عن السلام الشامل والعادل للجميع، وأن التنمية لن تكون مُستدامة طالما ظلت بؤر التوتر والصراع قائمة.