عبيدلي العبيدلي
تبرز ضرورة المسارعة نحو معالجة قضيّة "الأمن القومي"، عندما تتعرض الأمم، أو الدول إلى أي شكل من أشكال التهديد، المباشر، أو غير المباشر، الداخلي منه، أو الخارجي، ذا المستوى الدولي أو الإقليمي. ويتراوح مستوى التهديد بين مجرد الإزعاج أو "التحرش الناعم"، كما نشاهد ما يحدث اليوم بين الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية والآسيوية، وعلى وجه التحديد، ألمانيا والصين على التوالي، مرورا، بالاحتلال الجزئي، كما لمسنا ذلك عند الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، انتهاء باقتلاع شعب من أرضه، وهو ما قامت به المؤسسة الصهيونية العالمية في العام 1948، عندما احتلت فلسطين، ولم تكف من ذلك الحين عن محاولاتها لمسح معالم حضارته. وفي كل حالة من تلك الحالات كان هناك مظهر منفرد أو مجموعة من مظاهر التهديد المتشابكة لأمن تلك المناطق أو البلدان.
ويثير مفهوم "الأمن القومي جدالا واسعا بين من يطلق عليهم "المدرسة التقليدية"، وهي التي تصر على "المحافظة على النظرة التقليدية (المفهوم الضيق) الذي يتعلق بأمن الدولة، لذلك فضلوا إدخال بعض التعديلات - الشكلية والسطحية- فقط"، وتلك التي يطلقون عليها "مدرسة كوبنهاغن"، وهي التي "حاولت إعطاء مفهوم جديد لطبيعة الأمن وذلك من خلال إعادة صياغة جديدة ومن زاوية مغايرة للتحليل التقليدي المتداول، ألا وهو التحليل الاجتماعي لمفهوم الأمن".
وقبل الدخول في مظاهر التهديدات التي تمس جوهر الأمن القومي العربي اليوم، لا بد من العودة لتناول خلفيات مفهوم الأمن القومي بشكل عام، وتاريخ تبلوره في إطاره الذي نأخذ به اليوم على نحو خاص. فالبعض من أمثال الكاتب أحمد أمين عبد العال، يربط بينه وبين " ظهورعصر الدولة القومية مع معاهدة ويستفاليا عام 1648م والتي كان من أهم مبادئها مبدأ الولاء القومي الذي رسخ الملكيات القومية في أوروبا ". لكن هناك آخرون من يرجعون ذلك إلى تأسيس الولايات المتحدة "مجلس الأمن القومي في اتلعامل 1947".
ومن التاريخ، نعرج على تأصيل المفهوم، أو بالأحرى التعريف، وكلاهما محط خلافات بين من يتناولون هذه المسالة الشائكة. ففي مقالته المطولة الموسومة "مفهوم الأمن القومي.. بين الحقيقة والخيال"، يستعين الكاتب طارق عبد العال علي بمجموعة من التعريفات لكتاب أجانب وعرب من أمثال تريجر وكرننبرج، الذي يعتبر "الأمن القومي بأنه ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية". في حين يرى وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر، كما ينقل عنه عبد العال أن الأمن القومي "يعني أية تصرفات يسعى المجتمع - عن طريقها - إلى حفظ حقه في البقاء". أمّا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت ماكنمارا، صاحب كتاب "جوهر الأمن"، من ترجمة يونس شاهين فيصف "الأمن القومي، كما يقول عبدالعال قائلا: "الأمن هو التنمية، وبدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة".
أما على المستوى العربي فينقل عبد العال عن الرئيس السابق لأكاديمية ناصر للعلوم العسكرية، زكريا حسين، تعريفه للأمن القومي "بأنه.. قدرة الأمة ... على الدفاع عن أمنها وحقوقها وصياغة استقلالها وسيادتها على أراضيها، وتنمية القدرات والإمكانيات العربية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، مستندة إلى القدرة العسكرية والدبلوماسية، آخذة في الاعتبار الاحتياجات الأمنية الوطنية لكل دولة، والإمكانات المتاحة، والمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، والتي تؤثر على الأمن القومي...".
في الاتجاه ذاته، نرى الكاتب يحيى محمد نبهان، في كتابه الموسوم"مقومات الأمن العربي القومي" يسهب في تحديده للأمن، مستفيدا من اجتهادات من سبقوه، قائلا، "على ضوء المفهوم الشامل للأمن، فإنّه يعني تهيئة الظروف المناسبة والمناخ المناسب للانطلاق بالاستراتيجية المخططة للتنمية الشاملة، بهدف تأمين الدولة من الداخل والخارج، بما يدفع التهديدات باختلاف أبعادها، بالقدر الذي يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له أقصى طاقة للنهوض والتقدم. ومفهوم الأمن القومي هو قدرة الأمة.. على مواجهة جميع المخاوف والمخاطر التي تهددها وحماية مصالحها الحيوية والحفاظ على كيانها وبقائها. وكان لا بد من التطرق لمفهوم الأمن المائي.. الذي يقصد به التوفير المستمر لاحتياجات (الدولة المعنية) من المياه لسد احتياجاتها في مختلف المجالات، وخاصة المنزلية والزراعية والصناعية، لتحقيق التنمية المستدامة".
الشيء الثابت هنا عندما يتعلق الأمر بمفهوم "الأمن القومي، هو كما يرصده الكاتب علاء عبد الحفيظ محمد، هي حالة تنامي "الاهتمام بظاهرة الأمن القومي من الغرب إلى دول الجنوب. ويذكر الباحثون عدة أسباب لزيادة الاهتمام بدراسة الأمن القومي في مختلف دول العالم، بما يمكن اعتباره ظاهرة"، أفرزتها موضوعيا مجموعة من العوامل التي باتت راسخة، ويمكن تلخيص معالمها في النقاط التالية:
"التوسع في مفهوم المصلحة القومية ليشمل مسألة ضمان الرفاهية بما يعنيه ذلك من تأمين لمصادر الموارد.
ازدياد معدل العنف وتصاعد حدة الصراعات المباشرة.
ازدياد الشعور لدى دول الجنوب بنوعين من التهديدات المتصلة بأمنها القومي.
تزايد الإحساس بالقلق والتوتر الداخلي.
التحول من نظام الدولة القومية إلى نظام أوسع وأكثر شمولاً كالنظام الفيدرالي، أو التجمعات الاقتصادية الدولية.
تفكك الدول الكبرى وخاصة الفيدرالية إلى دول قومية مستقلة ذات سيادة".
على نحو مواز نجد الكاتب محمد خضر بتناول مسألة "الأمن القومي"، من زاوية المستويات التي يحتلها في سياسات الدول، ويضعها في ثلاث مستويات، يوردها على النحو التالي "للأمنِ القوميّ ثلاثةُ مستوياتٍ لا يتحقّق إلا باندماجها وتشاركها، وهيَ: المستوى الدّاخليّ: هو مستوىً يتعلّق بحفظِ المجتمع وحمايته من أيّ اختراقٍ أو تهديد، وإقرار مفهوم الاستقرار في كافّة المجالات. المستوى الإقليميّ: يتعلّق بالصِّلات الإقليمية للدولة مع الدّول الأخرى. المستوى الدوليّ: هو مستوىً أعلى مما سبقه؛ إذ يتعلّق بحِراك الدّولة ضمن المُحيط العالمي".