د. عبدالله باحجاج
في قضايا، كقضية الباحثين عن عمل لا يمكن المجاملة فيها أبدا، وسنرفع فيها سقف حرية التعبير والرقابة حسب متابعتنا لهذه القضية الاجتماعية السياسية العالية المستوى، وآخر متابعاتنا تشير إلى أنّ هيكلية وقيادية المركز الوطني للتشغيل تسير في الاتجاهات المعاكسة للمحددات السياسية المنشئة للمركز والتي أشرنا إليها في آخر مقالاتنا في جريدة الرؤية المعنون "أوقفوا الاجتهاد.. بعد النص السياسي الجديد"، كما تسير معاكسة لحجم الآمال والتطلعات الاجتماعية، وفق ما كشفها لنا مصدر مطلع رفيع المستوى.
وهذا ما يحملنا الآن إلى التعاطي مجددا مع هذه المسألة بعد أن تناولناها في مواقع تواصلنا الاجتماعي بعيد تمريرها لنا، وقلنا فيها إنّ إعادة انتاج النخب ذاتها للمراحل الجديدة لن يصنع الأمل ولا الثقة وهما الأهم لمرحلتنا الوطنية، فكيف إذا ما كانت الهيكلية كلها جزء من المشكلة المعقدة، أو على الأقل هي شاهدة عيان عليها، وهي غير منكرة، فمن يختلف معنا في قضية تراكم أعداد الباحثين عن عمل؟ ومن ينكر أنها تشكل أكبر التحديات التي تواجهنا الآن؟ ومن ثم من يختلف معنا. إنّ المركز الوطني للتشغيل يحتم الزج فيه بوجوه جديدة ذات كفاءة عالية، وبصلاحيات منتجة للفرص؟
لدينا قناعة كاملة بإمكانية المركز الوطني للتشغيل في إنتاج الفرص وبعدم حصرية هذا الإنتاج في النمو الاقتصادي فقط، وهو قد يستغرق وقتا طويلا لن يكون في صالح قضية الباحثين، ولدينا القناعة ذاتها بأن هناك كوادر وأطرا عمانية يمكن الرهان عليها في صناعة الأمل وكسب الثقة وفي جعل قضية الباحثين عن عمل في المستويات الطبيعية، وهنا ينبغي الاستدلال بحقائق مجمع عليها، ومن واقعنا الاقتصادي الراهن، لكنها غائبة عن الوعي التأطيري رغم أنها معلومة.
من بين أهم هذه الاستدلالات، ما كشفه الرئيس التنفيذي لمجموعة أسياد مؤخرا عن توفير فرص عمل للباحثين عن عمل وفي الوقت ذاته توفير أموال للوطن، في المقابل، ما كشفه مؤخرا رجال أعمال مشهور عن بيروقراطية عرقلت مشاريعه لمدة طويلة، بعضها وصل إلى 6 سنوات تقريبا، وجعلت دولة الجوار تفتح له كل التسهيلات لجذبه.. لكنّه رفضها للضمير الوطني، فهل ينبغي محاربة هذه البيروقراطية أم نتركها تعرقل تطورنا الاقتصادي؟ في المقابل كذلك، ما كشف عن التباين الكبير في سعر قطع الغيار بين محافظات البلاد من جهة وبين بلادنا ودولة الجوار من جهة ثانية، وصل الحجم من 180 ريالا للقطعة المطلوبة كأعلى سعر في إحدى الولايات إلى 35 ريالا في دولة الجوار، يعطينا مؤشرًا على خلفيات استغلال المواطنين، وبالتالي تعدد وتنوع استهداف جيوبهم من كل حدب وصوب.
النموذج الأول، ففيه تمكنت أسياد من الانفتاح على قضية الإحلال في مفصل جزئي من مفاصل مشاريعها، وهو فسخ عقد صيانة العبارات مع شركة المانية، مما أنتج ذلك، توظيف 34 عمانيا- وفق قولها- ليس هذا فقط، بل وتوفير في الوقت ذاته مليون ونصف المليون ريال عماني، هذا نموذج أمامنا الآن، يفتح عمليات الإحلال والتعمين على مصاريعها من حيث المبدأ، ونتمنى أن تتاح لنا الفرصة لمقال استقصائي حول هذا الموضوع الهام، للالتقاء بشبابنا وهم على رأس العمل، وعكس هذه التجربة الرائعة، لأنها جديرة بالاقتداء، بل وواجبة، وتتناغم مع توجهات الدولة الراهنة، وتشكل جوهر حل قضية الباحثين عن عمل، لذلك، لابد أن تتاح لنا هذه الفرصة حتى ننقل هذه التجربة ونعزز الثقة بها وبصدقها لدى الرأي العام وحمل المؤسسات الأخرى على الاقتداء بها.
وخطوة أسياد تعزز تأطير الرؤية السياسية للمركز الوطني للتشغيل، وهذا يفترض أن يكون من أهم أدواره، وهي تدحض من يسعى إلى جعله- أي المركز- تنسيقا، وتدعم حجية الإنتاج من واقعنا الاقتصادي المعاصر وهذه الخطوة لن تجعلنا نقبل سوى دور توفير الفرص للمركز فقط، فالإمكانيات واعدة ومتوفرة وفق نسقها الآني، لكن، نكرر هاجسنا في الأطر والكوادر التي ستتولى أمانة مسؤولية هذا المركز، فلا نريدها "سيم.. سيم" وإنّما نريدها جديدة بهاجس الإيمان بإدارة قضية الباحثين بكل مهنية وتجرد وتصميم وطني.
أمّا النموذج الثاني، فإنّ البيروقراطية في أشكالها الراهنة لن تتناغم مع التوجهات الطموحة لتحقيق رؤية 2040، خاصة وأنّ هذه الرؤية تعتمد على القطاع الخاص، فما دام هذا القطاع يواجه تعقيدات معرقلة، فكيف نقبل بقائها حتى الآن، ومن ثمّ، فكيف نراهن على النمو الاقتصادي في توفير فرص العمل؟ والنموذجان سالفا الذكر، لم يستوقفانا سياسيا، ولا إعلاميا، لماذا؟ هنا جوهر المشكلة الأصلية، فالإدارة السياسية بعيدة عنها، والاعتماد فقط على الإدارتين المالية والاقتصادية، وحتى في هذه الحالة يبدو أنّهما تحتاجان لمزيد من التناغم والانسجام، فالإدارة المالية كل هاجسها تحقيق التوازن، والتقليل من حجم العجز، بينما يكون هاجس الإدارة الاقتصادية هو المستقبل وتحقيق أجندته، لكن بواسطة فاعلين هي التي تختارهم بمواصفاتها ومقياسها، وهنا يكون الفراغ الذي تتحطم فوقه صخره السياسات الاقتصادية، فهل المصلحة الوطنية تحتم عودة وزارة الاقتصاد الوطني وإدخال صلاحيات في المؤسسة التنفيذية؟
هذا كله يتوقف على شرط وجوبي، وهو أن يكون المركز الوطني للتشغيل مرتبطا بأعلى سلطة في البلاد، ومتابعته له أولا بأول، ومتدخلة في حل إشكاليته فورا، وإلا سيكون على شاكلة الصندوق الوطني للتدريب، مهما كانت أطر وكوادر المركز وصلاحياته، فهذا الصندوق ورغم ما يقوم به من أدوار مهمة في التدريب، إلا أنّه يصطدم بصخرة الكيانات الاقتصادية الضخمة في بلادنا التي يكون وراءها متنفذون كبار، فحسب ما كشفته لنا المصادر هناك أكثر من 700 شاب عماني أهّله ودربه الصندوق، لكن الصندوق يواجه عدم تعاون هذه الكيانات العمانية التي تسيطر على اقتصادنا الوطني.
من هنا نكون قد قدمنا رؤية متكاملة لما ينبغي عليه وما لا ينبغي في قضية البلاد الأولى "الباحثين عن عمل" التي لا تقبل إعادة انتاج النخب القديمة أو حتى تأهليها، وانما نخب جديدة تتوفر لها المهنية والمظلة السياسية والتعاون الواجب من قبل الشركات الكبيرة في بلادنا، ولعلنا في مبادرة تدريب 1000 طالب عماني من قبل شركة صينية في أكبر مشروع اقتصادي في الدقم نموذج أخير من النماذج التي تفتح للمركز الوطني للتشغيل الآفاق في إنتاج فرص العمل في بلادنا، لو اخترناه من أرحام الكفاءة والمهنية بسقف سياسي داعم له، فكم شركة من الشركات الكبيرة تستثمر في بلادنا يمكن أن نفتح معها حوارات مماثلة؟!