حوراء النّدّواي "تحتَ سماء كوبنهاغن"


هوامش عراقية على متن دنماركي (1 – 5)

أ.د. يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات
تنتمي رواية "تحتَ سماء كوبنهاغن (1)" للروائية العراقية حوراء النداوي إلى (روايات المهجر)، فأحداث الرواية الأساسية تجري تحت سماء كوبنهاغن، والروائية ذاتها تعيش في المغترب الشمالي، حيث لا تجد الجاليات العربية ما يكفي من الاهتمام لرصد إنتاجها الأدبيّ، أو تقصّي ملامح شخصيات العرب التي تعيش هناك. ويخيّل إلينا أن رسالة هدى بطلة الرواية التي تخاطب من خلالها متلقي روايتها، هي رسالة حوراء ذاتها، وهي تلخّص هدفاً مهماً من أهداف الرواية، وتدعو إلى مزيد من الاهتمام بهذه الشريحة التي تشكّل جزءاً من الحالة الثقافية والاجتماعية العربية. تقول هدى:
"أستغرب نأيكم ومجافاتكم! فلا فنّكم ولا إذاعاتكم أو فضائياتكم العزيزة قد أنصفت وجودنا هنا، نحن النازحين إلى الشمال الأوروبي، حيث سقطنا جميعاً على ألوانه الرمادية"، ص24.
تحكي الرواية عن الساردة هدى التي تقدّم روايتها لرافد الذي تعرفه ولا يعرفها، طالبة منه أن يترجمها من الدنماركية إلى العربية، ليكشف رافد أنه الحبيب الذي تتحدث عنه الساردة على مدى روايتها، وليكشف السرد عن الأزمات التي يعانيها المجتمع العراقي الصغير، أفراداً وجماعات، في مواجهة خيارات صعبة أمام هوية أخرى تمتدّ بين الاغتراب عن الذات والاغتراب عن الآخر.
وتدرك الكاتبة، مثلما يدرك المقيمون في بلاد الشمال أن الخيارات الجديدة التي يقف معظمهم إزاءها هي خيارات قسرية، ناتجة عن نبذهم خارج ذاكرتهم، وخارج أرضهم التي شربت من الدماء أكثر مما ينبغي، فقاءت أهلها خارج حدودها؛ ليجدوا أنفسهم هوامش على متن أرض غريبة لها سكانها وعاداتها وأعرافها التي تبتعد كثيراً عن عادات وأعراف ألفوها في وطن لم يمنحهم فرصة للتعلّق بأهدابه.
إنّها الغربة التي تتقبّل المرء فرداً يقتات ذاكرته داخلياً، وترفضه جماعةً لها ذاكرتها وأعرافها وقوانينها الناظمة. والدنمارك مجرد بلد من بلاد، مثلما هدى مجرد غريبة من أغراب، تحار في تصنيف نفسها، فهي لا تعلم إن كانت عراقية من الدنمارك، أو دنماركية من العراق، لأنها ضائعة بين وطنين يرفضان انتماءها إليهما: وطن مثخن بالحروب لا يعرفها، ووطن مرفّه لا يقبلها: "رفضني كل من اعتقدت بأنني أنتمي إليه، فإذا كنت أنتمي إلى الدنمارك فلقد رفضتني مسبقاً، وإذا كان انتمائي إلى العراق فها هو الآخر يلفظني بقسوة أكبر"، ص75.
تعيش هدى دوامة عدم القدرة على الاندماج، لظروف يشارك في صنعها البيت والمدرسة والمجتمع، ففي كل منها ما يكفي من المواقف والأحداث ليسهم، بشكل أو بآخر، في تعميق الهوة التي تخترم قلب هدى وعقلها، تلك الهوة التي شعرت بها، فكانت أجنبية في أرض لم تتعرف إلى غيرها: "أنا أيضاً هيأوني.. كلهم فعلوا ذلك.. البيت، المدرسة، الشارع، الدنماركيون، الجالية الأجنبية، الجالية العربية، الجالية العراقية، كلهم ساعدوني في تهيئتي على التواصل وفق عاهتي"، 89
في الطفولة المبكرة تحتمي البطلة بطفولتها ووالديها في حدود البيت الجغرافية، قبل أن تنتقل ذاكرة الوطن القديم بأعرافه الدينية إلى ذلك البيت، حين يخترق الجيران الجدد (بيت أبو حسن) حصنهم الهش، ويحدثون فيه تغييرات تركّزت بالأساس على أم هدى، ومن ثمّ على ابنتيها هدى ونخيل؛ فقد لاحظت الساردة من البداية في عائلة أبو حسن أنّ "الأم والبنات يرتدين جلابيب طويلة تصل إلى كواحلهنّ، وترتفع حتى أعناقهنّ، ويربطن باحتراف حول رؤوسهنّ إيشاربات أنيقة غالباً ما تكون ذات ألوان قاتمة"، ص54، وراحت أمّها تخضع لتأثير أم حسن التي صارت تأخذها معها إلى المجالس التي تتكون من ثلاثة عناصر: "العنصر الأول الطعام، والثاني الكلام الذي يتزامن مع مضغ الطعام، والثالث جو روحاني يتمثّل بقراءة بعض السور القرآنية والأدعية"، ص55.
وقد ظهرت تلك التاثيرات تدريجياً على والدة هدى التي بدأت تتخفف من زينتها، ثم تضع شالاً يكشف نصف شعرها، ثم تلتحم بالمجموع الذي قررت الاتنماء إليه: "وفجأة ارتدت أمي الحجاب.. رمقها أبي بنظرة دهشة ثمّ خفض عينيه كأنّه يستسلم"، ص56.
ولكنّ هذا المجموع الذي تشكّل أم حسن رأس حربة فيه، لا يكتفي بانتماء أم هدى، بل يسعى إلى التمدّد إلى بيتها، وينجح في ذلك، فحين قالت لها أم حسن في إحدى زياراتها: "لماذا لا تعلقون لوحة لسورة أو آية تحفظون بها المنزل"، ص57، أسرعت إلى شارع نوربرو واشترت خمس لوحات، كتبت على إحداها آية الكرسي، وعلقتها فوق الباب (2)
والجدير بالذكر هنا أنّ أم حسن لا تسعى إلى تغريب أم هدى، ولا إلى تغريب نفسها عن المجتمع، أو الانسلاخ عنه، ولكنها تسعى إلى تحقيق كينونتها عبر انتمائها إلى هويتها الدينية. وقد نتج عن هذا إجبار هدى على وضع الحجاب، لأن إحدى الجارات تسأل والدتها: "ألم يحن الوقت لتتحجب كبقية البنات؟!، وتستنكر قولها" "أليست بعد صغيرة"؟؛ لأنّ هدى بلغت أربعة عشر عاماً و"بناتنا يتحجبن في التاسعة"، ص95.
اضطرت هدى إذاً إلى ارتداء الحجاب، قبل أن تفهم معناه، خاصة أنها تعيش في الدنمارك، وأنها لم تكن لتمتنع عن قبولها بارتدائه لو أن واحدة أخرى في المدرسة تفعل مثلها: "ليس لأني لا أومن بالحجاب، ولا لأن السفور يحلو لي، فحتى ذلك الحين كانت مفاهيمي محصورة في نطاق ضيق جداً هو المدرسة، حيث سأكون الوحيدة المرتدية للحجاب فيها كلها"، ص96.
وربما قادت الفكرة ذاتها الأم إلى قسوة غير مسّوغة (3)، إذ إنها كانت تفكّر بسد الطريق نهائياً أمام احتمال الإغواء الذي تمتلكه هدى بشعرها الطويل، فراحت تنظّم لها مواعيد مع الحلاقة في حرص شديد، على ألا يطول شعرها، رمز أنوثتها وجاذبيتها (وعارها الممحتمل)، حتى إذا اكتشفت تهرّب هدى أجبرتها على الذهاب: "حاولتُ التهرب من مواعيد الحلاقة التي تنظمها لي، لكنها حالما اكتشفت تهربي أجبرتني على الذهاب معها إلى حلاقة بترت لي شعري الطويل بلا رحمة"، ص103.
وإمعاناً من الأم في دمجها في مجتمعها الضيق (ما يعني سلخها عن مجتمع المدرسة) راحت ترسم لها أطر الانتماء، وتطلب من المدرسة مراعاتها في الأكل الحلال، وعدم إشراكها في درس السباحة، وعدم الاستحمام مع البنات في درس الرياضة حتى لا تضطر لخلع ثيابها أمام زميلاتها.
وعندما أرادت والدة هدى أن تمدّ جناحي أم حسن لتظللا ابنتها نخيل، لم تجد أية صعوبة، لأنّ نخيل تسعى إلى أن تصبح زوجة وأماً، ولأنها لا تجابه وضعاً مشابهاً لوضع هدى، من هنا فإن الأم لا تعترض على إحدى النساء التي ترى أن نخيل، حين ترتدي الحجاب ستكون فرصها أفضل في الزواج. وعلى الرغم من أنها تتزوج دون أن تتحجب، فإن الأم (تصّر عليها) أن تفعل، لتكتشف أن الأمر لم يكن يحتاج إلى إصرار: "بعد ذلك أصرّت أمي على نخيل أن تتحجب، فلم تعارضها، كما توقعت، بل قالت، وهي تهزّ كتفيها بغير اكتراث: مو مشكلة"، ص93.
ندرك إذاً أنّ انكفاء هدى عن الاندماج بالمجتمع الدنماركي لم يكن خياراً، بل انتماء للمجموع الذي يأخذ صغار السمك ضمن موجاته العاتية، تقول هدى: "موجة أخذتني في طريق لا أعرفه، ولم أتعمّدد السير فيه.. مثل الطواف حول الكعبة، تنحشر بين الجموع؛ لتدور هي بك، مطمئنة إياك لكونك لن تنحرف عن مسار طوافك"، ص134. وفي مقابل هذا الاطمئنان المتولّد من الانتماء للجماعة يتم فرض قوانينها التي تفرض عليها معاداة الآخر، أو تحييده. فها هنا نرى زينة، صديقة هدى، تتدخل حين ترى الأخيرة تساعد زميلتها الدنماركية في الدراسة فتسحبها خلفها، هامسة لها: "لا تتكلفي مساعدة ساقطة كهذه مرة أخرى"، ص135، وها هنا أيضاً لا تفهم فاطمة الغبية ضرورة التحدث بالدانمركية مع هدى، في أثناء وجود كريستينا وأندريا، وتردّ مصرّة على ألا تتخلى عن غبائها:
ـ لكنني لا أعرفهما"، ص71.
ولأن هدى الطفلة كانت تسعى للاندماج في مجتمع الآخر، كما هو بسلبياته وإيجابياته، فقد نبّه أبو حسن ابنته فاطمة على ألا تتحدث مع هدى في المستقبل:
"ـ من الآن وصاعداً لا أسمح لك باللعب معها.
ـ لكنها عراقية.
ـ إنها شر من الدنماركيات إذا كان هؤلاء أهلها، أب سكّير، وأخت ساقطة، وأخ عابث"، ص73.
وبالطبع فإن هذا الأمر لا يخص الجالية العراقية فحسب، بل ينسحب على الجاليات الأخرى التي تحاول أن تتشبث ببقايا صورة الوطن، فقد ظهرت لمى اللبنانية في الرواية على قدر عال من الوطنية، تلتزم الحديث باللغة العربية، و"تدبك الدبكة، وتستمع إلى مغنية اسمها فيروز، وتطبخ طعام منزلهم بنفسها في الوقت الذي كانت الأخريات منّا نادراً ما يدخلن المطبخ"، ص139.
غير أن كل ما سبق لا يعني أن الطرف الآخر مستعد للاندماج دائماً، وقد رصدت الرواية صوراً لذلك الدنماركي الذي لا يريد أن يلوّث ذاكرته وأعرافه ونقاء نسبه وصفاء عرقه عبر الاختلاط بالآخر، ويقف موقفاً سلبياً حتى إزاء طفلة تعاني من الغثيان والإقياء في حديقة عامة، باحثة عمن يساعدها: "رأيت رجلاً دنماركياً يقف مسمّراً بصره نحو الشارع، ليثبت أنه غير مهتم بما يحدث لي"، ص219.
حتى إن الطفولة البريئة التي تعني في التعامل الإنساني عدلاً أكثر وانفتاحاً أكثر تجابه معضلة حين يتعلق الأمر بالعلاقة مع الآخر، فالآخر ها هنا هو الطفل كلاوس زميل هدى في المدرسة، ذلك الفتى الذي كانت هدى تفضّل اللعب معه في الألعاب المدرسية التي تتكون من فرق، ولكنّ ما يحدث دائما هو التالي:
"ـ أنا وكلاوس معاً.
ـ (...) لا.. أنا لا أريد أن أكون معك.
ـ (...) لماذا؟
ـ (...) جدّتي تقول: عندما تكبر لا تتزوج من السوداوات.
ـ (...) لكننا لن نتزوج، وأنا لستُ سوداء"، ص28.
إذاً، فالجدة التي تمثل خبرة المجتمع في التعامل مع الجاليات الوافدة، تنقل خبرتها لحفيدها كلاوس، ولأخيه نيكولاس الذي يصرخ أمام الملأ، وهو يقصد هدى "البلهاء ذات الإيشارب"، ص107، وعلى الرغم من أنها تنبهه، ثم تركله، فإنه على ضعفه يدرك أن كلماته أقوى من ركلاتها، فيردد تلك الجملة مرتين، ص109، قبل الضرب وبعده، ويضيف لها بلهاء وساقطة، ويرفع إصبعه شاتماً، منتشياً بنصره عليها.
هكذا تبدو بطلة "تحت ساء كوبنهاغن عاجزة عن الانتماء إلى مجتمع يريد أن ينغلق عما حوله، عاجزة أيضاً عن الانتماء إلى مجتمع لا يقبلها على الرغم من انفتاحه؛ لذلك تواجه مشكلة حتى في الاندماج مع ذاتها.
..............................
هوامش:
(1)     حوراء الندّاوي: تحت سماء كوبنهاغن، دار الساقي، بيروت، ط2، 2012.
(2)      المكان هوية، هذا ما أرادت أن تؤكده أم حسن حين مارست الإحلال الثقافي على أم هدى، لتعطي المكان هويته الإسلامية، بعد ان كان أكثر انفتاحاً على الخارج.
(3)      أصبحت الأم تدريجياً صوتاً ثانياً لأم حسن، بل صارت "أم حسن أخرى"، ونمت عندها فكرة "المراقبة الذاتية"، وانتقلت من التلقي إلى الإصدار، ولم يكن دافعها عدم مخالفة الشريعة فحسب، بل "سد الذرائع" التي يُخشى أن تؤدي إلى المخالفة، ولو كانت شعراً طويلاً مغطى بالحجاب.

 

تعليق عبر الفيس بوك