الفرص التاريخية التي أضاعها العرب

 

عبيدلي العبيدلي

ظاهرة عربية ننفرد بها نحنُ العرب، ولا نكف عن الإمعان في السير في طريقها مصرين على الوصول إلى نهايتها، وهي ذلك العدد الكبير من الفرص العربية التاريخية التي توفرت لنا، من أجل تسخيرها لصالحنا، والاستفادة من نتائجها، لكننا بوعي أو بدون وعي، أضعناها، ثم سارعنا إلى البكاء والتحسر على أطلالها.

ليست هناك حاجة للغوص عميقاً في أعماق التاريخ كي نرصد تلك الفرص التي نتحدث عنها، وسوف نكتفي بالتاريخ العربي الحديث والمعاصر، ففيه الكثير، مما يصعب حصره من وقائع فاقعة ألوانها، تثبت، بما لا يحتمل التأويل، توفر تلك الفرص التي لا نكف عن إضاعتها حتى يومنا هذا، يكفي أن ننطلق من نتائج الحرب العالمية الأولى، حيث كانت أمام العرب فرصة تاريخية للتخلص من الاستعمار الغربي، ونيل الاستقلال حتى من تسلط الباب العالي العثماني، لقد انحاز العرب حينها نحو المحور الفرنسي - البريطاني ونسجوا تحالفهم معه، متوهمين الفوز بما وعدهم به "الفرنجة"، وهو "الدولة العربية الكبرى"، التي آلت فيما بعد، وبفضل عدم قدرة العرب على اقتناص الفرصة التي ولدتها أمامهم نتائج الحرب الكونية الأولى، إلى مجموعة من الدويلات المسخ، المتهالكة في أحضان الاستعمار الأوروبي، بفضل معاهدة سايكس-بيكو المشؤومة، وبررالعرب، كي يريحوا ضمائرهم، تضييعهم تلك الفرصة بإلقاء اللوم على تلك الاتفاقية التي صنفت في خانة المؤامرة، في حين كانت هي خطة أوروبية ذكية محكمة لضرب الدول العثمانية أولا، وتجزئة البلاد العربية ثانيًا، من أجل إحكام القبضة عليها، ونهب خيراتها ثالثا وليس أخيرا.

ونقفز من الحرب الكونية الأولى، كي نحط الرحال عند أعتاب الحرب العالمية الثانية، ومرة أخرى يكرر العرب أخطاءهم، وينحازوا للضفة الخاطئة، وكون ثمن ذلك، بعيدا عن الخسائر الباهظة الأخرى، قيام الكيان الصهيوني، ومرة أخرى أيضًا، وبدلا من أن يشن العرب حربهم على ذلك الكيان المسخ، من خلال تحالفهم مع العرب الذين أصروا على البقاء تحت حراب ذلك العدو، ويجعلوا منهم حصان طروادة من نمط جديد، وجدنا أنفسنا، نوجه الاتهام نحو ذلك الفلسطيني، بدلاً من الصهيوني، وأكثر من ذلك، وعوضا عن محاولة كسب اليهود العرب، رحنا نحرق منازلهم، وننهب متاجرهم، كي نرغمهم على الهجرة إلى الأرض المغتصبة، ونزود الكيان الصهيوني بما كان في أمس الحاجة له من موارد بشرية، لا يستخدمها في قلب التركيبة السكانية لصالحه فحسب، بل كي يجيرها في الحرب ضدنا.

ومن الفرص التي أضعناها على الجبهة السياسية، ننتقل إلى تلك التي وجدنا أنفسنا على ضفافها في الجانب الاقتصادي، حين أنعم الله علينا بثروة نفطية ليس لها حدود، كان بوسعها لو أحسن العرب التصرف بها، أن تضعهم في مواقع ليست تلك التي هم فيها اليوم. فقد انتقلت العوائد النفطية، إلا اليسير منها، وفي حالات استثنائية متناثرة، وغير مخطط للغالبية العظمي منها، من خزانات الدول العربية، ولا أقول الحكومات العربية فقط، نحو أسواق استهلاكية بذرت تلك الثروة وأضاعتها في نزوات غير منطقية، بعد أن استنزفت في صفقات تجارية واقتصادية وعسكرية مجحفة بحق العرب، وساهمت في تشويه صورتهم في أذهان العالم، وحرمت المنطقة العربية من نهضة تنموية، كان بوسعها أن تنقل البلدان العربية من قاع التخلف الذي ما تزال ترزح تحت نيرانه، إلى قمم التقدم التي سبقتها إليه دول نامية أخرى، لم تسنح لها فرصة اكتشاف النفط في بواطن أراضيها.

ولم تتوقف الأيادي العربية عن إضاعة الفرص التي أتاحتها الاكتشافات النفطية أمامها حتى يومنا هذا، فرغم التراجع الدرامي الذي شهدته أسعار النفط، لم يواكب ذلك تقنين منطقي في كميات استخراجه، ولا اختيار دقيق في لائحة جهات تصديره. كل ذلك من أجل إرضاء تحالفات ليست في صالح البلدان العربية، ولا شعوبها.

وتحولت الثروات النفطية بفضل تلك السياسات والسلوك، إلى سيولة نقدية "رخيصة"، تتضاءل قيمها بفضل تراجع أسعار النفط أمام سلع أخرى برزت في الأسواق العالمية، من بينها قيم الموارد البشرية، ومنتجات الثورة الصناعية الرابعة.

أضاع العرب هنا فرصة احتلالهم المكانة الاقتصادية التي وضعتها بين أيديهم الفوائض النفطية التي لم نحسن استثمارها على النحو السليم، ولا في الاتجاه التنموي الصحيح.

ومن الجبهتين السياسية والاقتصادية نصل إلى الجبهة الأكثر سخونة، وأعمق تأثيرا وهي الجبهة الاجتماعية، والتي كان من المفترض أن يلجها العرب من منافذ إيجابية مجزية بفضل التكوين الاجتماعي المشترك، الذي تحتضنه خلفية حضارية متناسقة، لا تشوه معالمها تلك التباينات الاجتماعية المتنوعة، التي كان من المفترض أن تشكل الفرصة التاريخية المواتية التي تؤسس لمجتمع متسامح تتعايش تحت سماواته تلك الأطياف الإثنية والطائفية التي تعود جذورها إلى تلك الحاضنة الحضارية.

ما شهدناه خلال النصف قرن المنصرم، هو احتراب تلك الإثنيات والطوائف في مواجهات تقترب من العبثية، زجت بالمنطقة العربية في اقتتالات ضارية، دفعنا ضريبتها عالية ليس في الضحايا البشرية فحسب، وإنما – وهذا الأسوأ – في تشكل كانتونات عربية إثنية شكلت ثغرات في الجسد العربي، نفذ من خلالها المنافسون قبل الأعداء. وتهشم بناء المجتمع العربي المتناسق في تنوعاته تحت ضربات تلك النزعات الطائفية والإثنية تحت مبررات واهية لا تخفيها المصداقية المزورة التي حاولت أن تروج لها الفئات الانتهازية التي استفادت منها، وبالتالي أمعنت في الترويج لها، بإصرار ووعي.

تأسيسًا على ذلك، وبدلاً من أن يسير العرب، بفضل الفرصة التاريخية التي تتيحها لهم حضارتهم المشرقة، على طريق التعايش المشترك، الذي تعترف فيه كل فئة عربية بنظيرتها التي مهما اختلفت مع بعضها البعض دينياً أو طائفيًا، وجدنا الصورة مقلوبة تمامًا، حيث دخلت تلك الفئات في حروب النفي للآخر ورفض التعايش معه، والاستقواء بالحليف الخارجي المزيف، الذي وجد ضالته في مثل تلك الصدامات المشوهة كي يتسلل من خلالها فيحقق مشاريعه الذاتية التي لا يمكن لها أن تزدهر إلا على حساب المجتمع العربي المتناحر مع بعضه البعض.

ما هو أسوأ من ذلك، وأشد مرارة هو أننا لا نتعلم من دروسنا، رغم كونها باهظة الثمن وعميقة التأثير، ومصيرية النتائج، ونصر على أن نواصل في القبول بإضاعة تلك الفرص التاريخية، التي ربما تتغير هيئاتها، وتتبدل صورها، لكنها في نهاية الأمر لا تتكرر، ولا يمكن لساذج أن يستفيد منها، طالما أصر على عدم تأهيل نفسه كي يقتنصها، فهي تمر مرور السحاب، ولا تكرر نفسها أمام من لا يحسن الاستفادة منها.