استراتيجية مواجهة إيران بين الواقع والتطبيق

 

جمال الكندي

عودنا العقل السياسي الأمريكي تبني نظرية "العدو الاستراتيجي" سواءً كان هذا العدو واقعاً حقيقياً مثل أيام الحرب الباردة بينه وبين الاتحاد السوفيتي، أو عدو وهمي يتم تشكيله حسب المصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية لأمريكا في المنطقة.

نحن نتحدث عن مصطلح محاربة "الإرهاب" والذي بدأ بكذبة تنظيم القاعدة في ثمانينيات القرن الماضي، واستثمار هذا المكون في إيجاد الذرائع لغزو أفغانستان ومحاصرة الروس في مناطق نفوذها.

اليوم استبدلت القاعدة بداعش والسيناريو لم يتغير في التدخل في شؤون دول المنطقة تحت ذريعة محاربة الإرهاب، لاستنزاف مواردها الطبيعية واستغلال موقعها الجغرافي وضمان أمن إسرائيل.

"داعش" انتهت - نسبيا- من العراق وسوريا، وفي كل حرب هناك محور منتصر وآخر مهزوم، والمحور المنتصر اليوم في العراق وسوريا هو محور الممانعة والمقاومة متمثلاً في روسيا وإيران وسوريا، ومن كان في حلفهم. وجولة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في المنطقة جاءت من أجل تشكيل ناتو عربي جديد يواجه هذا المحور.

تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الأخيرة في القاهرة والدوحة ضد إيران كانت بمثابة إعلان حرب سياسية واقتصادية وعسكرية، خاصةً في ظل وجود تسريبات صحفية تفيد بأن مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون طلب من وزارة الدفاع العام الماضي تزويد البيت الأبيض بخيارات عسكرية لضرب إيران.

هذه الاستراتيجية الجديدة تنذر بإشعال المنطقة بأكملها، فبعد فشل مشروع احتواء إيران، والتضييق عليها سياسياً واقتصاديا، خرجت تصريحات من الرؤوس الساخنة في البيت الأبيض لتغير لهجة الكلام ضد إيران من محاصرتها إلى مواجهتها عسكرياً، وهذا ناتج عن الفشل الأمريكي في العراق وسوريا واليمن، وزيارة مايك بومبيو إلى المنطقة هي محاولة لإيجاد جبهة تواجه إيران.

لكن السؤال هنا هل هي جبهة عسكريةً؟ أم ذات طابع سياسي واقتصادي؟ وهل هذا الحلف الجديد دوله مجتمعة على عداء إيران، ولها القدرة مواجهتها عسكرياً؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، توجد لدينا معطيات سياسية وعسكرية لمجريات الأحداث في المنطقة، هذه المعطيات تخبرنا بأن أمريكا وحلفاءها فشلوا في هزيمة إيران عسكرياً من خلال القضاء على حلفائها في العراق وسوريا واليمن وعزلها سياسياً، فخروج أمريكا من الاتفاق النووي كان يهدف إلى محاصرتها سياسياً واقتصاديا، ولكن إصرار المجتمع الدولي بقيادة الاتحاد الأوروبي بعدم الخروج من هذا الاتفاق، ومواصلة التعاون مع إيران عقد الموقف الأمريكي وجعله في تخبط سياسي.

وهذه المعطيات العسكرية والسياسية تجبر ذوي الرؤوس الحامية في واشنطن، وبعض الدول العربية والإقليمية أن يمعنوا النظر في قراءة المشهد السياسي والعسكري الجديد جيداً بعد فشل مشروع الحرب بالوكالة ضد محور الممانعة والمقاومة.

وبعد هذه المعطيات نجيب على الأسئلة ونقول هناك نظريتان للتعامل مع إيران هما: نظرية "الاشتباك والتشابك"، وعلى ضوء المعطيات التي ذكرناها يتم تحديد كيفية التعامل مع إيران؛ فالاشتباك يعني الحرب سواء بأدوات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، والتشابك يعني الدخول في دائرة المصالح المشتركة التي تضمن الاستقرار السياسي والسلم الإقليمي للمنطقة.

إيران دولة مؤثرة في اليمن والتفاهم معها على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" يسرع من الحل السياسي في هذا البلد، وهي كذلك مؤثرة في الجبهة السورية والعراقية، وهي الضامن لانسحاب آمن لأمريكا من أفغانستان، وإيجاد بيئة توافقية بعد الانسحاب الأمريكي تحقق الأمن للمنطقة، والتصعيد معها عسكرياً يشعل هذه الجبهات ويرجعنا للمربع الأول.

إن نظرية الحرب عن طريق الجماعات الراديكالية التي تتبعها الإدارة الأمريكية فشل في أداء الدور المطلوب منه، وكان سلباً عليها بظهور عمليات إرهابية في أوروبا وأمريكا نفسها، ولم يستطع هذا المنتج كسر وإضعاف الدول التي لا تسير في الفلك الأمريكي، لذلك جاء دور الحرب المباشرة ضد هذه الدول وعلى رأسها إيران، وجولة بومبيو تنصب في هذا المحور لتشكيل جبهة يعقد لها مؤتمر في وارسو ببولندا منتصف فبراير المقبل تحت عنوان "محاربة الإرهاب"، ويقصد به إرهاب إيران في المنطقة.. فهل سينجح هذا المؤتمر؟ أم يكون كغيره حبرا على ورق؟!

من ضمن الدول التي زارها بومبيو دولُ لها علاقات دبلوماسية واقتصادية قوية مع إيران، وهي تفضل مبدأ التشابك لا الاشتباك معها بسبب المصالح المشتركة والجوار الجغرافي، وهذا ما يصعب مهمة وزير الخارجية الأمريكي فلا يوجد إجماع بين الدول التي شملتها جولة بومبيو على العداء لإيران إلا من دولة أو دولتين، لذلك فإن أمريكا تدرك أن نظرية الاشتباك مع إيران في هذه الظروف هي صعبة للغاية، والجولة التي يقوم بها وزير الخارجية الأمريكي تستثمر في الفضاء الإعلامي فقط، ولن تؤدي إلى شيء، فمن يريد محاربة إيران لا ينسحب من سوريا، ولا يؤيد التسوية السياسية في اليمن.

ما يقوم به وزير الخارجية الأمريكي يصب في خانة الحرب الإعلامية والنفسية، لأنه يدرك أن المجتمع الدولي ليس في صفه، خاصةً بعد مسألة الاتفاق النووي مع إيران، والبقاء ضمن إطارها وعدم الخروج منها، فهي المنصة التي يستغلها الإيرانيون في جعل أمريكا معزولة دولياً في طرحها عزل إيران مواجهتها عسكريا.

"الاشتباك والتشابك" خياران للدول العربية التي زارها بومبيو، فإما الدمار وإما التشارك السياسي والاقتصادي في إدارة ملفات المنطقة على مبدأ المكسب والخسارة، والخيار متروك للدول التي زارها وسيزورها بومبيو في اختيار ما يناسبها وتحمل كل تبعات ذلك.