التقييم الشامل للتعليم

حميد بن مسلم السعيدي

 

تعاني منظومة التعليم في السلطنة من بعض السلبيات التي تتمثل في هدر المال العام وعدم استفادة بعض أبناء الجيل الحالي من العملية التعليمية، إذ إن جانبا ما قامت به المؤسسة التربوية حتى اليوم لم يحقق الجدوى المأمولة بدرجة كبيرة، وخالف توقعات المواطن في عدد من المجالات، فثماني سنوات يبدو أنها غير كافية للقائمين على التعليم لإجراء تعديلات واضحة في العملية التعليمية، بل العكس من ذلك هناك إنفاق كبير في التعليم وفي المشاريع التربوية التي يراد منها أن تحدث تغييراً ملموسا على المخرجات الوطنية، ولكن الواقع يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذه المشاريع التربوية لم تحقق المرجو منها على النحو الأمثل.

فواقع التعليم ينبغي قراءته من خلال ما ينفق من موارد مالية ويستهلك من طاقات بشرية من أجل تعليم أبناء الوطن، ولكن إذا لم يكن هناك استغلال إيجابي وفاعل لهذه الموارد، فإنّ ذلك يعطي مؤشرات على وجود خلل في إدارة المؤسسة التربوية، فالكثير من المشاريع التي تم التعاقد معها مع شركات أجنبية وبيوت خبرة ومؤسسات أكاديمية عالمية، لم تحقق الغاية منها، بل إن البعض منها لم يستمر طويلاً ورحل دون أن يقوم بالدور الذي يفترض القيام به، بل وصل الحال إلى شراء كل ما يمكن الوصول إليه والبحث عنها في أسواق التعليم، بدءا من المناهج الدراسية، والأنظمة التقنية، والاختبارات الدولية، والمعلمين الوافدين، وخبراء التعليم، وغيرها من الجوانب التي استهلكت المال العام. وفي ذات الاتجاه فإن المطلع على ذلك يدرك على أنّ هذا الإنفاق يقابله تغير واضح ومملوس في مخرجات التعليم، ولكن الوضع تراجع كثيراً وأصبح يعاني من حالة من الضعف التي لم تجد من يقوم بمعالجتها.

أصبح التاركون للتعليم الحكومي للتوجه إلى التعليم الخاص في زيادة سنوية، بحثا عن مخرج لتعليم الأبناء، حتى بات أعداد الطلبة في التعليم الخاص يتجاوز المائة ألف طالب، مما يعطي دلالة بتراجع ثقة بعض المواطنين في التعليم الحكومي، ولكن هل كل المواطنين قادرين على تعليم أبنائهم في القطاع الخاص أو البحث عن مصادر لتمويل ذلك التعليم؟ في حين أنّ التعليم وجودته هو حق من الحقوق الأساسية للمواطن، وينبغي على الحكومة أن تعمل على توفيره وتجويده بما يحقق أهداف الوطن.

قراءة واقع التعليم تفضي إلى عدد من النتائج قد لا ترضي طموح المواطن وربما لا تحقق الآمال العريضة التي نرسمها للوطن، حيث يحدث تراجع ملحوظ في العملية التعليمية والابتعاد بمسارات بعيدة عن نمط التعلم الحديث الذي كان يفترض أن يواكب الحداثة، وينطلق من أساسيات تربوية هادفة تشتق من العصر الحديث أهم نظرياته ومبادئه وأهدافه، كيف لا ونحن نقترب من حضارة جديدة في عهد البشرية، وهي حضارة الثورة الصناعية الرابعة، وما متوقع حدوثه من تغير شامل في كافة جوانب الحياة، حيث يعتقد أنّ الحكم على المرحلة الحالية بأنّها حضارة تقليدية بالمقارنة مع الحضارة القادمة، وفي ظل ذلك نجد أنّ تعليمنا ما زال قابعا في العهود القديمة ويمارس أساليب ومنهجيات لا تتوافق مع متطلبات هذه الحضارة الحديثة، فأين المنقذ للتعليم؟

طالما لم تقدم المجالس البرلمانية- في بعض الأحيان- كمؤسسات رقابية وتشريعية وممثلة للمواطن في المطالبة بحقوقه، أصبح لزامًا العودة إلى توجيهات جلالة السلطان المعظم أمام مجلس عمان عام 2011م في حديثه عن التعليم والدعوة إلى ضرورة إجراء تقييم شامل للعملية التعليمية: "ولما كان التعليم هو الركيزة الأساسية للتقدم والتطور ولإيجاد جيل يتحلى بالوعي والمسؤولية ويتمتع بالخبرة والمهارة ويتطلع إلى مستوى معرفي أرقى وأرفع فإنّه لابد من إجراء تقييم شامل للمسيرة التعليمية من أجل تحقيق تلك التطلعات". لذا فإنّ تطبيق هذا التوجيه السامي لا يمكن إلا من خلال مؤسسة وطنية مستقلة عن المؤسسة التربوية وتهدف إلى تقييم عمل هذه المؤسسة بكافة جوانب وعناصر العملية التعليمية بدءًا من المناهج الدراسية، ونظام التقويم، والبيئة المدرسية، والمعلمين، ومنهجية التدريب أثناء الخدمة، والقيادة التربوية، وحتى الأنشطة المدرسية، بحيث تعمل على تقديم أحكام بالاستناد على دراسات بحثية مقننة ومعايير دولية تستند عليها في عملية التقييم.

هذه الدعوة الوطنية أصبحت مطلبًا من مختلف المواطنين، خاصة بعد أن لمس البعض عدم وجود تغييرات واضحة لتطوير التعليم، وكل ما يحدث لم يكن له ذلك الأثر الإيجابي المأمول على تعلم الطلبة، في ظل تراجع واضح في توفير البيئة المدرسية الملائمة من حيث الكثافة الطلابية وإيجاد المعلمين ذات الكفاءات العالية، وتوفير الأدوات والبيئة التعليمية التي تساند علمية التعلم الحديثة، فنجد اليوم ارتفاعا في الكثافة الطلابية داخل القاعة الصفية، وارتفاع نصاب المعلمين من الحصص الدراسية، وقِدم المناهج الدراسية، وارتفاع نسبة المعلمين الوافدين، وتنامي مدارس التعليم المسائي، وتراجع المهارات لدى مخرجات التعليم العام، وارتفاع تكاليف السنة التأسيسية في التعليم العالي، وارتفاع نسبة الطلبة المغادرين للتعليم العالي لعدم امتلاكهم للمهارات التي تؤهلهم للاستمرار والنجاح في تلك المؤسسات، وتراجع التصنيف العالمي لمستوى التعليم بالسلطنة، كل ذلك يمثل تراجعا في عملية التعليم، وهذه المؤشرات لا تحتاج إلى بيوت خبرة لتخبرنا بها، فهي واضحة للرأي العام.

لذا فإنّ إنشاء المركز الوطني للتقويم اليوم أمر في غاية الأهمية، بحيث يمارس مهامه كمؤسسة رقابية وتقييمه لعمل وزارة التربية والتعليم، ويعمل على صياغة الرؤى وإصدار الأحكام بما يتوافق مع المعايير الدولية، والأنظمة التقويمية التي تضع وتحدد مستوى التعليم بالبلد، إذ من الضروري أن تكون هناك مؤسسة رقابية مستقلة تمارس أعمالها بصورة هادفة فيما يتعلق بمنظومة التعليم والإنفاق المالي والموارد البشرية.

Hm.alsaidi2@gmail.com