د. سيف بن ناصر المعمري
فكرة التطور لابد أن تطال كل شيء؛ لأنّ الأوضاع في عالمنا تتغير بسرعة كبيرة، وبدون مواكبة التغيرات بالتعليم والتطور، سنتكبد كلفة ضخمة لابد من دفعها، وأحيانا ثمنها باهظ خاصة إن تعلقت بتطور الحكومات ومواكبتها لما تمر به الحكومات الأكثر فاعلية من مراجعات مستمرة لأدائها، وقدرتها على إنجاز الأهداف والمسؤوليات المتوقعة منها.
وفي الوقت الذي طرحنا فيه خلال السنوات الماضية سبل تطوير قطاعات معينة تعليمية واقتصادية وعملية ومستقبلية، تطرح دول متقدمة سؤالا أكثر عمقا في مسألة التطوير، وهو كيف نعمل على تطوير حكوماتنا؟ هذا السؤال طرحته أكثر من حكومة حول العالم، لأنّها تشعر بأنّ الابتكار والتنمية الاقتصادية والتعليم وبناء المستقبل يتطلب من الحكومات أن تكون قادرة على فهم عالمها وأين وصل، وكيف يمكن أن تتعلم وتبني خبرة متطورة في إدارة شؤونها، بالاستفادة من فهمها للعالم من حولها بدقة واتخاذها لقراءات سريعة ومفيدة ومؤثرة، إذا ما قورنت بغيرها من الحكومات. وبالتالي كما يتباين الأفراد في ذكائهم تتباين الحكومات أيضًا؛ حيث نجد حكومة ذكيّة، وأخرى أقل ذكاءً، وثالثة لديها صعوبات تعلم وتحتاج إلى مزيد من الجد والاجتهاد والدراسة حتى تلحق ببقية زميلاتها، هذا هو الاستنتاج الذي توصل إليه الباحثون والمهتمون بالتطوير الحكومي، ومن يرفض أن يتعلم إذن لن يتغير وسيظل يتخبط كثيرًا في إدارته وقراراته في وقت ينطلق فيه العالم بسرعة.
قد يبدو المتابع أمام حيرة كبيرة حين يجد حكومات تنادي بالتغيير في كثير من القطاعات، ولكن تنسى أنّ التغيير لا يمكن أن يتحقق إن لم تعمل الحكومة نفسها على تطوير نفسها، وتوجهاتها، وأساليبها في الإدارة، ومبررات تطوير الحكومات لنفسها عديدة من أهمها: أولاً زيادة قدرتها على تلبية احتياجات شعوبها، فالحكومة التي لا تتطور تقل قدرتها على توفير احتياجات مواطنيها وحقوقهم في العمل والمستوى المعيشي، وغيرها من الجوانب التي يتطلعون إليها كما يتطلع إليها غيرهم من مواطني العالم. وينتج من ذلك عدم رضا عن الخدمات المقدمة وتراجع في الثقة، وهذا ما لا تتمناه أي حكومة في العالم. أمّا المبرر الثاني، فإنّ التطوير يتيح قدرة كبيرة على تنفيذ إصلاحات ناجحة على المدى الطويل، لكن الثبات وعدم التطور يقودان إلى ضيق الأفق، وبالتالي لا يتيح ذلك للحكومة بناء رؤية استراتيجية مبنية على فهم ليس واقعها الداخلي واحتياجاتها فحسب وإنّما مبنية على فهم التغيرات العالمية من حولها، مما يجعلها تنزع فقط لمواجهة الإشكاليات حين تطرأ وبآليات غير فاعلة تقود إلى ظهورها مرة أخرى. أمّا المبرر الثالث الذي يدفع الحكومات لذلك فهو الحاجة للتنبؤ بالمستقبل، وضرورة إجراء إصلاحات استباقية تتيح جني كثير من فوائد المستقبل قبل الآخرين. والحكومات التي لا تستجيب لهذه المبررات، وتغلق عينيها عن أن ترى حاجات مجتمعها والعالم من حولها، ستظل في مواجهة دائمة مع نفس الإشكاليات، لكنّها غير قادرة على القضاء عليها، والتوجه لأهداف أكثر إلحاحا في أهدافها التنموية.
ما الذي تحتاجه الحكومات لكي لا تعيش في جلبابها التقليدي؟ سؤال مهم جدا في عالم اليوم ومن لا يفكر في جدية هذا السؤال الآن ويستجيب فورا لحتميات التطوير والتغيير، ربما يكون معرضا لأن يصنف في السنوات القادمة كـ "حكومة رجعية"، شأن ذلك شأن تصنيف الدول في التنافسية والتعليم والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فالأمر مرتبط بمؤشرات يجب تحقيقها. وبالتالي تحتاج الحكومات لكي تخرج من ذلك الجلباب إلى العمل على مراجعة أربعة عناصر، والنهوض بها وهي: أولا: الانحياز إلى الكفاءة في قيادتها، وثانيا: بناء الخبرة العميقة لدى أجهزتها ومؤسساتها، وثالثا: الاستناد إلى المعرفة الناتجة من التحليل العميق للبيانات وبناء قرارات واعية في ضوئها، ورابعا: الفعالية في إنجاز خططها، أي أن تعزز ما هو فعّال، وتتجنب ما هو غير فعال. وهذه العناصر الأربعة تتطلب مراجعات عميقة، والاستناد لذوي الخبرة والكفاءة الذين يمكن أن يزيدوا فاعلية الحكومة؛ لأنّ هذا هو الكفيل بإيجاد حلول لملفات شائكة. فإلى متى ستظل الحكومات حول العالم منتظرة لكي تنصلح الأمور من تلقاء نفسها؟ وهي تدرك أن الأمور لن تنصلح أبداً إلا إذا غيرت هي من نفسها وعاداتها وبنيتها وهيكليتها وتوجهاتها.
لذا فالحكومات لابد أن تنصت وتعي ما يجري حولها، عليها ألا تتعصب لنفسها، وتدعي الكمال في وقت شرعت فيه حكومات دول متقدمة ودول صغيرة على تخصيص أموال ليس لتطوير قطاعات فرعية إنما لتطوير الحكومة، وفي وقت بدأت دول توجه البحث العلمي ليس لتحقيق الابتكار الصناعي والاقتصادي والتقني، إنّما لتحقيق الابتكار الحكومي، وبالتالي وجهت عمليات البحث العلمي لدراسة الحكومة وتشريحها بغية تعرف الأمراض التي تعيقها عن النمو والتطور، وبغية فهم عقليتها، ولماذا لديها اتجاهات سلبية إزاء التعلم من الآخرين؟ ولما تعاني من التردد؟ بل إنّ دولة صغيرة مثل سلوفينيا- التي أجزم أن البعض نسي أنّها كانت إحدى ثلاث دول صغيرة تسمى دول البلطيق- كانت في مقدمة المناطق التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق، وهذه الدولة أسست وزارة أسمتها وزارة الدولة لشؤون التطوير والمشروعات الاستراتيجية. وتقول ألينكا سميركولج وزيرة هذه الوزارة عن أهمية التغيير في عمل الحكومات: "أصبح الحكم أصعب من أي وقت مضى، وأدركنا أننا لا يمكن أن نواصل مزاولة أعمالنا كالمعتاد، وأن علينا أن نبدأ التغيير". وتضيف: "اكتشفنا أننا لن نحدث تغييرا حقيقيا في الحكومة إلا إذا تحدثنا إلى الناس واستعدنا ثقتهم".
وبالتالي هنا نجد أنّ التغيير نابع من داخل الحكومة وليس من خلال الضغط على الحكومة لكي تتغير وهي ترفض ذلك، ونابع أيضًا من الحرص على ثقة المواطنين في الحكومة وليس التصرف وكأنّ تلك الثقة غير ذات أهمية. ولذا فالنموذج السلوفيني يؤكد أنّ التغيير لكي ينجح لابد أن ينبع من داخل الحكومة نفسها، ولابد من الانطلاق من القاعدة والاستماع لها، ولابد من التوحد تحت رؤية وأهداف واحدة يعمل عليها الجميع وليس فقط بعض قطاعات الحكومة. إذن، هل من المستحيل تشكيل حكومات قابلة للتطور؟ هل يمكن وجود حكومات غير قادرة على التعلم والتطور والتفكير وتكون سابقة لفكر لمواطنيها بدلا من أن يكون مواطنوها سابقين لها في تلك الجوانب؟
هذه أسئلة عميقة، ستفكر فيها حتما بعض الحكومات، وستقلل من شأنها حكومات أخرى، وسترفضها حكومات.. لكن الحكومات الجادة حسمت موقفها منها منذ سنوات وهي اليوم أكثر قوة ومناعة.