د. عبدالله باحجاج
بعد أكثر من ربع قرن، وهم يعملون فيها، وتحديدا منذ العام 1990، المطلوب من أصحاب المضابي في سهل أتين بصلالة الآن -وجميعهم مواطنون- إخلاء المحلات، وتسليمها لبلدية ظفار في بداية 2019، فقد وصلهم إشعار رسمي من البلدية بالإخلاء في ذلك التاريخ. إذن، ما مصيرهم؟ وما مستقبل هذه المضابي التي أصبحتْ ميزة سياحية فارقة على مدار العام، وفي فصل الخريف على وجه الخصوص؟
القضية التي نفتحها اليوم من القضايا الإنسانية الاجتماعية التي تُثير الدهشة والاستغراب الكبيرين، وتُنذر بسيناريو مقلق في عصر الضرائب؛ فالمضابي فيها من الأبعاد الاجتماعية التي لا يمكن تجاهلها أبدا، وتجاهلها يعني "خراب بيوت"، وحتى الآن لا يُمكننا سوى أن أصحابها قد أدخلوا قهرا في مرحلة قلق مرتفعة على مصير محلاتهم، وهذا أمر قاسٍ جدًّا ومؤلم جدًّا بصرف النظر عن أية خلفيات واعتبارات، فكيف لو كانت هناك اعتدادات كبيرة، تلزم المسؤول بها؟ وكيف لو كانت في تاريخية المسؤولين، تغليب منطق الاعتدادات والاعتبارات، من هُنا تُثير قضية أصحاب المضابي كلَّ تعاطف إنساني واجتماعي، وكل من يفتح ملف الاعتدادات المستحقة وغير المستحقة "قديما وحديثا" سيتساءَل: لماذا يُستثنى أصحاب المضابي رغم أنهم يمتلكون كل معطيات ومقومات الاعتدادات الموضوعية والإنسانية، ويتجاوزونها لصالح شركة أو دخل إضافي لخزينة البلدية؟ فقرار الإخلاء، وإدخالهم حتى الآن في غياهب المجهول، لا يُراعي حقوقًا متأصلة لهم طوال تِلكم السنوات التراكمية، ولا يعتد بربع قرن "تراكمي" في المكان نفسه، وفي المهنة ذاتها، وفي اعتمادهم المطلق على المضابي كمصدر دخل لهم ولأسرهم، ويقفز فوق السمعة السياحية التي اكتسبتها المضابي عبر هذا التراكم، وقد تحوَّلت أسماء أصحابها إلى علامة تجارية وسياحية إقليمية "كبوسعيد مثلا"، ولو فتحنا مفصلًا صغيرًا في الخلفيات، فسنجد أن أفراد الأسرة الواحدة قد أصبح محل المضابي الواحد مصدر دخل لهم "أب مع ثلاثة أبناء" من الصباح الباكر وحتى منتصف الليل، في ورديات زمنية، يتناوبون عليها، وليس لهم دخل غيرها.
القرار من هذه الناحية يعني فعلا "خراب بيوت"؛ لذلك لن نستغرب من حالة القلق المرتفعة التي لمسناها منذ الوهلة الأولى التي التقينا فيها ببعضهم، كما أن هناك بُعدًا آخر لهذا النوع من القلق، وهو ينبع من لجوء أصحاب المضابي إلى البنوك للاستدانة منها لتحسين وتطوير محلاتهم، وهذه الجزئية تفتح لنا معاناة أخرى لهذه الشريحة، كما أن هذا القرار يخالف أهم توجهات الدولة وهو تشجيع الأعمال الحرة، وتوجيه الشباب إلى إقامة مؤسسات صغيرة ومتوسطة، وهذه المضابي قد أصبحت مؤسسات قائمة بذاتها، ومربحة لاصحابها؛ وبالتالي: فهل ينبغي هدمها أم المحافظة عليها؟ علما بأنَّ تطوير محلات المضابي كان ضمن مكرُمَة سامية لتطوير المرافق السياحية في محافظة ظفار.
وما هي حُجة بلدية ظفار في انتزاع المضابي منهم الآن بحُجة القانون؟ السبب: تسليم هذا الموقع لشركة أساس بعقد انتفاع لمدة 50 سنة مع مواقع أخرى؛ منها: الممشى بسهل أتين المقابل للمضابي غرب الشارع العام، ومواقع في الدهاريز والحافة.. دون مراعاة مصالح أصحاب المضابي في العقد -على ما يبدو حتى الآن- وقد كتب أصحاب المضابي رسالة إلى سعادة رئيس البلدية، يتساءلون فيها قائلين: "هل من المعقول بعد هذا الجهد طيلة أكثر من ربع قرن أن تسلم هذه المواقع إلى الشركة، وأن يتم إخراجنا إلى المجهول، ونحن مواطنون من أهل البلد، ومن هذه المنطقة؟". رسالة مؤثرة جدا، وقد تأثرنا بها، وبلقاءاتنا مع بعضهم، فلا يعقل إنسانيًّا ولا وطنيًّا ولا اجتماعيًّا ولا حتى قانونيًّا أن يتم إخلاؤهم من محلاتهم هكذا فجأة بعد تلكم السنوات العديدة والمتواصلة، وهذه المسألة ينبغي أن تُتفهم، وأن تُقدر، فبدلا من إعطائهم حق الانتفاع بها على مدى طويل جدًّا على غرار ما يُعطَى للآخرين، نجعل العقود السنويَّة سيفا مسلطا على مصالح مثل هؤلاء المواطنين البسطاء.. مما يجدون أنفسهم معه الآن -ومن منظور القانون "العقد شريعة المتعاقدين"- مُجبرين على إخلاء محلاتهم. لكننا لو نظرنا للبُعد الغائي لهذا القانون، سنجد أن قرار الإخلاء لا ينبغي أن يكون أحادي الجانب، وإنما يكون مشتركًا أو على الأقل مُعتدا بالواقع ومعطياته، وهو أن هناك مصالح كبيرة قد تأسَّست على العقود السنوية طوال تلكم السنوات، وهذه السنوات وتراكماتها في التجديد السنوي المتواصل.. يمدد الإطار السنوي القصير، ويعطه مدى زمنيًّا طويلًا من حيث الجوهر وليس الشكل؛ مما يرجح هنا الجوهر على الشكل، بدليل المدة الزمنية الطويلة نفسها "28" عاما، فكيف يتم مطالبتهم بإخلاء المواقع الآن؟ إذا كانت بلدية ظفار تتطلع لزيادة دخلها من خلال إعادة استثمار الأراضي والمرافق العمومية التي تشرف عليها، فهل هذا ينبغي أن يكون حصريا على المضابي فقط؟ سنتناول في مقال قريبا استثمار الأراضي العمومية بين الواقع والمأمول في عصر التحولات الجديدة لبلادنا.
ندعُو بلدية ظفار للإسراع لطمأنة هؤلاء المواطنين على مستقبل رزقهم حتى لا يكونون صيدًا سهلًا قد يبتعلوا من قبل الكيانات الاقتصادية الجديدة، ونقترح إعادة التفاوض مع الشركة على بقاء أصحاب المضابي في مواقعهم "وعددهم عشرة فقط"، أو منحهم أراضي جديدة كحق انتفاع طويل الأجل على غرار الآخرين وفي المنطقة نفسها؛ لإقامة مضابيهم عليها، مع أننا نرى أنَّه كان ينبغي أن لا تمس مواقع المضابي في عقد الانتفاع مع الشركة، ومنحها مواقع أخرى، على اعتبار أن هذه المضابي قائمة بذاتها، وناجحة جدا، ولها تاريخ طويل، وقد أصبحت أسماء أصحابها علامة نجاحها، وعلامة بارزة للسياحة في بلادنا، فمن الظلم عدم مراعاة هذه الاعتبارات، ومن الظلم جعل مثل هؤلاء المواطنين قلقين على مصير رزقهم حتى الآن. ودون هذه الحلول أو ما يشابهها، سيبدو لنا المشهد، وكأنَّ الحيتان الكبار ستبتلع مصالح الصغار.. لكننا لا نزال هنا نأمل ردًّا إيجابيًّا من بلدية ظفار على رسالة أصحاب المضابي، فلابد من الإسراع، فهم قلقون على مصدر رزقهم.