فرص العمل الضائعة

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

حين نكون في أمس الحاجة لتوفير فرص عمل نوعية لمواردنا البشرية، ولكن نفرط فيه بدون أسباب مقنعة فهناك إشكالية كبيرة، ومعضلة غير مفهومة، تجعلنا في حيرة مستمرة، لا نملك تفسيرا إلا التأويلات لأننا لا نريد أن نسيء الظن في إخوتنا المسؤولين عن مؤسسات التعليم العالي، الذي أصبح قطاعا كبيرا يولد فرص عمل متفاوتة في مستواها إلا أنها في مجملها جيدة، وتستحق أن تشغل بالقوى الوطنية إلا أنها تشغل في معظمها بقوى وطنية، وكأنّ العمانيين رغم المؤهلات التي يحملونها غير مناسبين لشغل وظائف هذا القطاع، فنسب التعمين في الهيئة الأكاديمية بكليات العلوم التطبيقية بلغت في العام الأكاديمي (2014-2015) (40.8%)، أمّا في الجامعات والكليات الخاصة فبلغت (19%) في نفس العام طبقا للبيان وزيرة التعليم العالي أمام مجلس الشورى في عام 2017م، ولم توفر لي وأنا أكتب هذا المقال رغم البحث إحصاءات عن نسبة الأكاديميين العمانيين في كل من جامعة السلطان قابوس، والكليات التقنية التابعة لوزارة القوى العاملة، ولا المعاهد الصحية التابعة لوزارة الصحة، ولا تلك التابعة لوزارة الدفاع، وغيرها من المؤسسات التي تتبعها مؤسسات تعليم عال، وهي إحصائية تختفي رغم التوظيف الكبير للغة الأرقام في التعليم العالي، ربما لأنها تعبر عن إشكالية عميقة لا يريد أحد أن يسلط عليها الضوء، أو أن يقترب منها من قريب أو بعيد رغم ما يثار اليوم عن تحديات التوظيف، وتحديات المؤهلات وظهور الشهادات المزورة، ونود أن نسلط الضوء في هذا المقال على أربع فرضيات تقف وراء هذه الظاهرة.

الفرضية الأولى هي الرغبة في تحقيق الجودة التي لا بد منها لكي يرتقي التعليم العالي وينافس في مستواه إقليميا وعالميا، نجد أن مثل هذه الفرضية مرفوضة لأن من يعود إلى تقارير الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي الأولية لتقييم مؤسسات التعليم نجدها تؤكد أنّ المؤسسات التي عملت على تقييمها حتى الآن وضعت تحت الملاحظة، ولا داعي لذكر الأسماء هنا فهي موثقة على موقع الهيئة، إذن سبب ذلك هو في المقام الأول وجود هيئات أكاديمية دون المستوى لم تفلح في تعزيز الجودة في هذه المؤسسات، وبالتالي ربما شغل هذه الوظائف من قبل أصحاب المؤهلات من العمانيين سيقود إلى تحسن في وضع هذه المؤسسات، وسيعمل في الوقت نفسه على تعزيز حضور القوى الوطنية في قطاعا لوجستيا لا يمكن للتنمية واستراتيجيات المستقبل أن تتحقق بدون تطوره.

أمّا الفرضية الثانية التي قد تكون وراء تفضيل توظيف القوى غير العمانية في هذا القطاع هو تفاوت الرواتب والتي ربما لا تتناسب مع متطلبات أصحاب المؤهلات من العمانيين، فهذه أيضًا فرضية مرفوضة فالرواتب التي يقدمها هذه القطاع خاصة الحكومي منه تعد جيدة إذا ما قورنت بالرواتب التي يمكن أن توفرها وظائف غير أكاديمية في نفس القطاع المدني، ناهيك عن مجموعة من الامتيازات التي تحصل عليها القوى غير العمانية ولا يحصل عليها غير العمانيين ويمكن توفيرها، من تذاكر سفر سنوية، وأماكن سكن مؤثثة، والتأمين الصحي، وعلاوة لتعليم الأولاد، وغير ذلك من المحفزات التي تقلل من تأثير الراتب في عزوف المؤسسات عن قبول العمانيين في الوظائف الأكاديمية.

أمّا الفرضية الثالثة التي يمكن أن تساق لتبرير هذه الظاهرة فهي حاجة المؤسسة إلى شغل من يمتلكون رصيدا علميا وخبرة أكاديمية، وهو ما يفتقده بعض العمانيين ممن لم تتكون لديهم الخبرة الأكاديمية، وهذه فرضية لا يمكن القبول بها دون تمحيص، فهناك مؤسسات تتعاقد مع أساتذة لديهم مؤهل لا يتعدى الماجستير ولكن تنتظر منهم حتى يكملوا الدكتوراه وتعينهم في درجة أعلى، وبعض هؤلاء جاء بخبرة أكاديمية ولكن من مؤسسة ليس لها تصنيف وحضور مؤثر في عالم التعليم العالي، بل إنّ بعضهم يعين في درجة علمية عليا بناءً على ترقية في مؤسسته الأكاديمية الأم لا تقارن معاييرها مع المعايير التي تتم وفقها الترقيات العلمية في المؤسسة العمانية، وبعضهم وهذا ما عرفته بنفسي جاء من مؤسسات غير أكاديمية وعين كأكاديمي دون أية تحفظات، فلمَ تكون التحفظات من قبل المسؤولين العمانيين في هذه المؤسسات على المتقدمين العمانيين، هل هناك أزمة ثقة مع العمانيين وحسن ظن كبير مع غيرهم؟ وما مسوغات المسؤولين عن هذا القطاع؟ لكل ذلك لابد من توضيح لهذه الظاهرة التي قادت بعد أكثر من 37 عاما من انطلاقة التعليم العالي بالبلد إلى هذا الاختلال الكبير.

أمّا الفرضية الرابعة فهي مرتبطة بالتأهيل أي أنّ اللجوء إلى توظيف القوى الأكاديمية غير العمانية يجنب مؤسسات التوظيف مبالغ طائلة يمكن أن تصرف على الخريجين المتميزين حتى يحصلوا على مؤهلاتهم العليا، وكذلك يجنبها وقت الانتظار ربما إلى عشر سنوات، ولذلك قلّ عدد المعيدين في كثير من المؤسسات في السنوات الأخيرة، رغم زيادة توسع المؤسسات وبرامجها واحتياجاتها وهي فرضية أيضًا مردود عليها لأنّ هناك أصحاب مؤهلات أنفقوا بأنفسهم على دراستهم، ويمكن توظيفهم بعد إخضاعهم لضوابط التوظيف، وهناك  أيضا من يمكن أن يؤهل في برامج الدراسات العليا التي تقدمها هذه المؤسسات وفي مقدمتها جامعة السلطان بكلفة أقل من إرساله إلى جامعات خارجية تتطلب أموال باهظة في هذه الأوضاع، لأنّ الغريب أن يكون هذا مبررا في وقت ترضى فيه هذه المؤسسات في كثير من الأوقات بتوظيف أكاديميين ليس لأنّهم الأفضل لكن لأنّه لا يوجد غيرهم تقدم لهذا الوظيفة، وبالتالي أليس من الأجدر أن تشغلها قوى وطنية.

في هذا المقال نحث مجلس التعليم- الجهة التي قدمت كمرجعية أولى لشؤون التعليم العالي- على تقديم كشف دقيق بنسبة الأكاديميين العمانيين مقارنة بغيرهم خلال العام الأكاديمي الحالي، وأيضا الإنفاق المالي الذي يذهب إلى القوى الأكاديمية غير العمانية، وتحدد لنا الأفق المستقبلي لمعالجة الاختلالات في قطاع التوظيف، وهي مناشدة دفعنا إليها مطالبة عدد كبير من أصحاب المؤهلات الذين لم يفسح لهم المجال للالتحاق بهذا القطاع نتيجة شروط تمييزية حسب زعمهم ضدهم من المسؤولين العمانيين عن هذه المؤسسات.