في ذاكرة الرحلة..(عصام النجار.. صاحب القصيدة)


 

عبدالوهاب شعبان* | مصر
كاتب صحفي – جريدة الوفد المصرية

مثل ريشةٍ في هواء عاصف لم تخجل من رقتها، ولم تسأل عن مرساها، آوى إلى شاعريته، واستأنس وحدته.
(1)
بدأت القصة حين جنّ ليل القرية، وتداعى الساهرون لبعضهم يتلاومون مشقة الصباح، ويتقاسمون أمنيات التسلية من الوحدة المفروضة، لكل شارد في الطرقات شأنٌ يغنيه، وحلم يأويه..
على مرمى البصر من أمام مسجد "عسلة" بدا شابًا ثلاثينيًا ثقيل الخطوة، رأسه لأسفل، يديه مثبتتين، وعينيه زائغتين، كسائر في الرمل، يقترب فيتجلى نقاء بشرته، وندرة شروده، يلقي سلامًا عابرًا، وينصرف باتجاه "محل بقالة" لا يغلق أبوابه إلا عند الفجر.
تكرر الأمر، فالتقينا، تعارفنا، وتآلفنا، فعرض علينا ذات مساء استضافتنا في بيته ولملمة الحكايات من الشوارع.
(2)
يمكنك أن تعرف هنا (كيف تتوقف حياة الوحيدين رغم بقائهم على قيد الحياة؟)
(اسمي "عصام"-لا أحد معي في منزلي، وتستطيع أن تأتيني في أي وقت شئت)، دلفنا مع مجموعة الأصدقاء إلى غرفة لها بابان أحدهما يفضي إلى الآخر، خاوية من مظاهر السكن، كأنها قطعة عشوائية متفردة، يتوسطها مكتب صغير عليه جهاز تليفزيون لا يرى منه صورة، ويسمع صوته في بعض الأحيان، كان صديقنا فيما رواه يستمع إلى "الراديو" ويشاهد صورة التلفاز لكسر ملل الوحدة، افترشنا أرضها المغطاة بقطعة قماش رمادية اللون، واستعضنا عن المدفأة بـ"وابور جاز"نحاسي اللون، مزدوج الفائدة، تنبعث من ناره الهادئة سخونة تصد الصقيع، وننتظر مع بطئها "فوران الشاي" بعد ساعات من الدردشة.
لا مكان لإعداد الطعام في بيت "الزاهد"، ولا شكوى من وحدة قاسية، مبعثرة أوراقه في كل اتجاه، كقصائده التي أحرقها في لحظة يأس.
ثم كانت الحكاية..
(3)
في عصر يوم ما كنت أمارس عملي في أحد معارض "الموبيليا"، دفتر أشعاري تضمن نحو مائة قصيدة، إحداهن في صورة المعلقات، ومع مشهد الغروب شعرت للحظة بـ"اللاجدوى"، وتساءلت: ماذا ينتظر من فقد أبويه تباعًا؟، وصار في مواجهة حتمية مع دنياه؟.. قررت حرق دفاتري، ثم نثرتها في الهواء..
يقول صديقي الذي بدت ابتسامته كإشراقة في ساعة الضحى: لامني أصدقائي، وبعدها تصالحت مع لوم الذات المتكرر، صادقت الوحدة، واستمرأت الضياع.
وبعدها عملت بائعًا في إحدى المكتبات، كأنها مصالحة إجبارية مع الأوراق، والأقلام، فسعيت مرة أخرى للكتابة، لكن هذه المرة لم يعد لدي أصدقاء يستمعون إليّ، وصارت قصائدي وحيدة أيضًا..
وماذا عن الحب يا شاعر؟...
-هذا ليس للفقراء يا رفاق الليل..
(4)
انصهرت الوحدة التي في صدورنا فاستحالت إلى "ونس" يومي، وشجن حتمي..
ملأنا حياته، وآوينا إلى حكاياته كصبيان يتحلقون حول الجد الذي أوتي بلاغة السرد، نستمع، ونستمتع، نحاكي تجاربنا، ورغباتنا المؤجلة، نشفق عليه، فيأخذنا إلى براح الرضا التام بالمقدور، ونغوص في مكامنه فيصادفنا لؤلؤ فيوضاته الإنسانية، وتجلياته الإيمانية.. كدرويش هارب من أساطير العارفين.
سقط الحب من أولويات "عصام النجار" مغشيًا عليه للأبد، وهو الذي يحمل بين دفتي فؤاده حبًا يسع مدنًا بأكملها، لا يشقى إطلاقًا بوحدته، وقور في إطلالته، طفولي في عفويته، وحكيم يصف دواء الحيرة للحائرين، ويستثقل شكاية الشاكين.
(5)
يُعرفُ الطيّبون بشيئين: التعفف عن الخوض في الناس، ورقة الإحساس..
عاد إلى قصائده بعد سلسلة لقاءات متعاقبة، وكنّا ننتظر الليل لملء فؤاده الفارغ من أحبته، أحطناه بصداقتنا الدافئة، فأفرط في الوفاء، وقال ذات ليلة: إنني حين سمعت خبر وفاة الشاعر "نزار قباني" عبر أثير الإذاعة كتبت هذه الكلمات، ضم ورقته كوليد حديث عهد بالحياة وألقى (ودعتكَ الكلماتُ أم ودعتها؟ /والأرض قبل أن ترحل، هل قبلتها؟/ يا أيُها.. يا صاحب القصيدة)..
في هذه الليلة تبدلت حياته تمامًا، استشار الأصدقاء في مشروع يتقنه، ونثر جرعة تفاؤل استثنائية على الجميع، وآثر حب الحياة بمشقتها على عذوبة السهر دون جدوى، سأبدأ، وسأتزوج..
لم يفتأ صديقي الشاعر يتقي قسوة سؤال أقرانه، ومن هم أصغر منه سنًا عن الزواج، هذا السؤال الذي يبدو كسوط يجلد ظهور الاستثنائيين في بلادنا دون أثر لرأفة، ولا محاولة لفهم دواخل النفس المعذبة..
(6)
الصديق..هو المساحة التي يفتدي بها المرء سوء محيطه العائلي..
لم يصدقه أحد، وصادقه الكثيرون، وكنّا في معيته نستشعر رغبته الجارفة في الإقبال على الحياة، محاولاته الدؤوبة للخروج من حصار الذكريات القاتل، وآماله العريضات في استمراء الصبر، واحتواء الشعر، وبدت الأمسيات التي كانت مثخنة بجراحنا الغائرة، متدثرة بطموحاتنا الهادرة.
انطلق عصام النجار إلى حيز التنفيذ هاربًا من سراديب الأمنيات، فكَّر، وقرر، ثم أجمع أمره ذات مساء معلنًا أنّه مستعد للخطبة، وسيفعلها غدًا، في مساء هذا الغد فوجئنا بإعلانه "الخطوبة"، معطوفًا على عبارة حاسمة "سأتزوج بعد شهرين".
آن لهذا الفتى الذي أمضى سنوات لم يجتمع على مائدة أحد حتى في "شهر الصوم"، أن يجمعه القدر على شريكة تناصفه النقاء، وتستكمل ما بدأه الأصدقاء.
(7)
وعندما صالحه القدر، أغواه السفر..
طرق الشاعر الحالم أبواب القاهرة ليفي بموعد الزواج، وتولينا ترتيب منزله، أزلنا ترابًا تراكم على حياته، وجدران بيته، بما يليق ببهائه، ونقائه، وشعرنا بيتم استثنائي قرابة الشهرين، فقدنا لذة المساء، وأدركتنا لوعة الاشتهاء، واستعضنا عن غيابه بلحظة تحققه الأول، وانتقاله من مرارة الانتظار إلى لذة الاستقرار.
كنّا نحن المدعوين، وأصحاب الفرح في آن واحد، أحيا ليلته بفاصل من فكاهته النادرة، وتندره الساخر من كوارثنا، وأشار إلى كلينا (أنا ومحمد النحاس)- كنّا الأكثر فقرًا- مبتسمًا (لا تخافا، سأزوجكما تباعًا)- عليكما الإدخار معي، ولا تقلقا-، كانت هذه الثقة معلمًا جديدًا من معالم يقينه بالقدرة على المواجهة، وأتمَّ زواجه..
هذه المرة ستطرق باب الغرفة امرأة لإبلاغه بجاهزية الطعام، والمشروبات، وهو يحمل "صينية" العشاء أشرق وجهه كشمس في سماء يوم ربيعي، أما الغرفة فصارت دفئًا على دفئها..
(8)
وما الدنيا إلا كغرفة صاحبي باب يأخذك إلى باب، ودونهما فجأة الغياب..
فرقتنا الليال، وابتلعت القاهرة "عصام النجار" كعادتها مع الغرباء، الشاعر قرر العمل بمحل ألبان في إحدى المناطق العشوائية، كنقلة مفاجئة من قمة الهدوء إلى قاع الصخب، العودة ننتظرها على حد الشغف ونسرق من وقته ساعةً من ليل، بعد حيازة شريكتنا في حبه أغلب ليله، وتلبسته شخصية الغريب، يأتي زائرًا، ويغادر حائرًا..
في مساء ليلة صيفية عام 2011 التقيته وقد تهيأ للسفر، توسلته أن يبيت ليلته هذه في قريتنا، ويؤجل سفره، قلت: "أود أن اقتسم معك فرحتي براتبي الأول من "بوابة الوفد"، سأتكفل هذه المرة بالعشاء، بعد سنوات من اللامساهمة، وأعدك ألا يكون "جبنة، ولانشون"-هذا الطعام الذي أحببته، وسخرت من صداقته، ودعوت أن يحشر الله آكليه معًا في مستقر رحمته"، فشد على يديّ، رافضًا البقاء، واستطرد:"لازم أمشي"..
 سافر صديقي، وعاد مسجى على ظهره كذاكرتنا وذكرياتنا، خفيفًا كعادته، غريبًا يستكمل أطوار غربته، وقسوة حكايته.
رحم الله الشاعر الذي رحل بلا ديوان، وأبقى لنا قصيدتين من رائحته (أحمد، وجهاد عصام النجار).
________________________
*كاتب صحفي مصري
للتواصل مع الكاتب على فيس بوك
Abdelwahab Shaban


 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك