عامٌ من الصمود والاستبسال

حاتم الطائي

◄ عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين في أشنع حرب إبادة بالتاريخ الحديث

◄ المقاومة الفلسطينية تواجه الإجرام الصهيوني بكل استبسال وشجاعة

◄ العدوان على غزة كشف زيف "القيم الغربية" وبرهن النفاق العالمي

 

لم يشهد العالم حرب إبادة وتجويع على مدى التاريخ المعلوم، أسوأ مما يجري منذ عامٍ كامل للشعب الفلسطيني البطل، في قطاع غزة ولاحقًا في الضفة الغربية، ولم تتعرض قضية عادلة لخذلان إقليمي وعالمي مثلما تعرضت القضية الفلسطينية والأراضي العربية المُحتلة، وما جرى يوم السابع من أكتوبر عام 2023 سيظل محفورًا بمداد العزة والكرامة على جبين الإنسانية، من جانب، كما إن ما تلاه سيبقى دليلًا دامغًا على دناءة القوى العظمى وخسة المحتل الصهيوني البربري.

عامٌ من الصمود والاستبسال، العنوان الأبرز مع بلوغ حرب الإبادة والتجويع في فلسطين المحتلة يومها الـ365، واستشهاد قرابة 42 ألف فلسطيني، معظم من النساء والأطفال، وإصابة عشرات الآلاف، كثير منهم يُعانون من بتر الأطراف، علاوة على اعتقال الآلاف، والتنكيل بهم وتعذبيهم؛ بل وتصويرهم أثناء التعذيب، في انتهاك صارخ لا مثيل له، لكل الأعراف والمواثيق الدولية. عامٌ تجرع فيه الشعب الفلسطيني- وما يزال- مرارات شتى، ورزح تحت ويلات القصف والتجويع والإبادة. عامٌ افترش فيه أهالي غزة ترابها ورمالها بعدما تهدمت كل منازلهم، واضطروا للشرب من مياه البحرالمالحة والأكل من علف الحيوانات، بعدما حُرموا من أدنى مقومات الحياة، في غياب تام للإنسانية ووأدٍ للضمير. عامٌ مرَّ وأبناء غزة يبكون ويصرخون، يتألمون ويتوجعون، يناشدون المجتمع الدولي التدخل ووقف العدوان الغاشم، بينما يرفع هذا المجتمع شعار "لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم". عامٌ منعت فيه الولايات المتحدة استصدار أي قرار من مجلس الأمن لوقف الحرب عبر استخدام حق النقض "فيتو"، في انهيار غير مسبوق للقيم الإنسانية التي يدعي مجلس الأمن الحفاظ عليها!

لم تنم أعين الشرفاء والمُخلصِين منذ أن اندلع العدوان الوقح على الشعب الفلسطيني، بينما غط المُدلِسون وشُذاذ الآفاق في سبات عميق، رغم القصف والتدمير الذي لم يتوقف على مدار الساعة. أمعن الاحتلال الإسرائيلي في إبادة الشعب الفلسطيني، وبذل كل الجهود من أجل تهجيرهم قسريًا وإزاحتهم خارج أرضهم ووطنهم، لكن وبفضل استبسال هذا الشعب الأبي، فشلت كل محاولات المُجرم الإسرائيلي.

وفي المقابل، واجهت المقاومة الفلسطينية العدوان الغاشم بكل شجاعة واستبسال، ونجحت في تكبيد عدوها الخسائر واحدة تلو الأخرى، حتى تحوّلت غزة إلى كابوس يؤرق مضاجع جنود الاحتلال وقادته، ومقبرة لكل من تسوِّل له نفسه انتزاع الحق الفلسطيني بالباطل الصهيوني. قاومت الفصائل الفلسطينية العدوان بكل ما تملك، من سلاح وعتاد وأبطال مقاتلين، اشتبكوا من "المسافة صفر" وجهًا لوجه مع محتل جبان يحتمي بدبابته الميركافا، ويُقاتل "من وراء جُدر"، فاصطادتهم المقاومة مثل الجرذان. نجحت المقاومة الباسلة في أن تُسطِّر أروع الملاحم القتالية، التي تعكس أسمى معاني الشرف والإباء والعزة والكرامة الوطنية، وحاربت المُحتل الغاصب رغم عدم التكافؤ الجلي والواضح. برهنت المقاومة أنه "لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس"، وقاتلت عدوها، الذي لم يكن إسرائيليًا فقط؛ بل بدعم غربي لا محدود، ورعاية أمريكية لا مثيل لها.

حققت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة انتصارات استراتيجية ستُدرَّس في المعاهد والأكاديميات العسكرية، للتأكيد على كيفية هزيمة جيش جرار مُسلّح بأعتى الأسلحة والمعدات، فقد إذا ما تحلّى المُقاوِم بالإيمان وقدرته على الانتصار. فقد سجّلت المقاومة في تاريخ المعارك أنه بالإمكان إلحاق الخسائر بالعدو بأبسط الإمكانيات، ومنها استخدام مخلفات القصف وإعادة تصنيعها في هيئة قنابل وصواريخ. أكدت المقاومة الفلسطينية أن صاحب الأرض هو القادر على حسم المعارك، مهما أحدث العدو من تدمير شامل، إلّا أن ابن الأرض سيظل هو المُنتصر ولو بعد حين.

لقد كشف العدوان الصهيوني الهمجي على غزة، حجم النفاق العالمي، لا سيما في العالم الغربي، فبينما تتغنى دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرهم، بحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة، أماط العدوان البربري اللثام عن حقيقة إيمان واقتناع هذه الدول بما يزعمونه من قيم ومبادئ؛ إذ تبين أن هذه المبادئ ليست سوى شعارات زائفة يوظفونها للضغط على الحكومات والدول، وإلهاء الشعوب وإشاعة الفوضى والدمار. إنها دولٌ تعتمد سياسة ازدواجية المعايير وتُكرِّس التدليس المُمنهج، القائم على تزييف الواقع وتشويه الأحداث، ولي عُنق الحقيقة، لخدمة أهدافهم الدنيئة، ودعمًا لحليفتهم المُجرمة إسرائيل.

العدوان على غزة ثم الضفة الغربية المحتلة ثم لبنان، يؤكد أن كيان الاحتلال فشل في هزيمة المقاومة؛ إذ مثلما عانى وتجرع الآلام في غزة، يتكرر المشهد وبذات السيناريو؛ حيث تُلقنه المقاومة درسًا قاسيًا يؤكد مدى استبسال المقاومة، ويكفي إحصاء عدد القتلى والمصابين بين صفوفه جراء المعارك والتلاحمات المباشرة بين المقاومة في غزة ولبنان، وجيش الاحتلال، وكيف يتقهقرون في خوف ورعب أثناء المواجهات المباشرة. لم ينجح الاحتلال سوى في إبادة وقتل المدنيين بالطائرات الحربية العدوانية، وفي هدم البيوت على ساكنيها، وفي تدمير الشجر والحجر وقتل النبات والحيوان. لم ينجح الاحتلال إلّا في محو أحياء وبلدات وتسوية أبنية ومناطق كاملة بالأرض. لم ينجح الاحتلال إلّا في اغتيال القيادات بكل غدر وخسة ونذالة، ورغم ذلك كله لم ينل من إيمان وعزيمة المقاومة؛ سواء في غزة أو لبنان؛ حيث تواصل تصديها الشُجاع للاحتلال، وتُطلق مئات الصواريخ التي تنهال يوميًا على أراضي الاحتلال، حتى إن صافرات الإنذار لا تتوقف عن الدوي خوفًا ورعبًا من سقوط الصواريخ على الأرض المُحتلة.

لقد أكد هذا العدوان كذلك ما نؤمن به من أن إسرائيل ليست سوى بيت عنكبوت، تتلقى الدعم العسكري والاستخباراتي واللوجستي من راعيها الأمريكي، وما انهيار هذا الكيان يوم السابع من أكتوبر 2023 في أقل من 6 ساعات، وشيوع حالة الفوضى العارمة في أركانه، سوى تأكيد على ضعف وهزال هذا المحتل الغاصب. وتجدد هذا التأكيد، مع الضربتين الإيرانيتين لدولة الاحتلال، عقابًا لها على تنفيذ اغتيالات خسيسة لقيادات إيرانية، وقصف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، وثأرًا لاغتيال إسماعيل هنية والسيد حسن نصر الله. ففي كلا الضربتين وقفت إسرائيل عاجزة في مواجهة الطير الأبابيل، الذي ألقى حممه المُشتعلة وحقق الأهداف المطلوبة، رغم تكتُّمه الشديد على الخسائر الفادحة، والأضرار غير المسبوقة التي لحقت به.

ويبقى القول إنَّ ما يجري منذ السابع من أكتوبر 2023، يُبرهن للعالم أجمع أن الحقَ أحق أن يُتبع، وأن الاستبسال والصمود في وجه العدوان الغاشم والمحتل الجبان، لا بُد أن يكتب النصر أو الشهادة للمقاومين الأبطال، ويُحقق الأهداف السامية التي من أجلها سالت الدماء الطاهرة الذكية، ألا وهو تحرير الأرض ونيل الحرية..

رحم الله شهداء العزة والكرامة.. رحم الله الأبطال المغاوير الذين قدموا حياتهم ثمنًا للنصر المحتوم..

الأكثر قراءة