التأريخ الشفوي.. ذاكرة وطن

 

د. سليمان المحذوري

abualazher@gmail.com

 

على مدار ثلاثة أيام (23- 25 سبتمبر)، أُقيم مُؤتمر دولي هو الأول من نوعه في العاصمة مسقط حمل عنوان التأريخ الشفوي "المفهوم والتجربة عربيًا"، هذا المؤتمر هو ثمرة تعاون بين هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ومؤسسة وثيقة وطن بالجمهورية العربية السورية.

وخلال أيام المؤتمر التقى تحت سقف واحد ثلة من الأكاديميين والباحثين والمهتمين لعرض تجارب رائدة تُعنى بالتأريخ الشفوي، ومُناقشة مختلف الرؤى والأطروحات إلى جانب التحديات في هذا الجانب. وبالتالي البناء على الخبرات المتراكمة في كيفية توثيق الروايات الشفوية وتنظيمها، وإخضاعها للتحليل والدراسة من أجل الاستفادة منها في الدراسات والأبحاث كمصدر مهم ومكمل للمصادر الأخرى.  وفي هذا الإطار عُرضت تجارب رصينة من سلطنة عُمان ممثلة في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ووزارة الثقافة والرياضة والشباب، والجمهورية العربية السورية، إضافة إلى تجربة كل من ليبيا وتونس. ومن الخبرات الأخرى غير العربية، تم استعراض تجارب من إيران والصين وروسيا. وفي بث مرئي من خيام غزة، تحدّث رئيس مركز التاريخ الشفوي بالجامعة الإسلامية عن دور هذا المركز في توثيق وحفظ الروايات الشفوية الفلسطينية؛ إلّا أنّه مع أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة طال الدمار أرشيف هذا المركز.

ولا شكّ أن الرواية الشفوية لها أهمية لعدة علوم خاصة العلوم الإنسانية منها التاريخ، وعلم المكتبات، وعلم الاجتماع وعلم النفس، والإعلام. ومن ثم يُمكن للرواية الشفوية أن تُسهم بمادة علمية تصبّ في وعاء الإنتاج الفكري، وتنشيط حركة البحث العلمي. وهذه المادة قد لا نجدها في المادة الوثائقية أو المطبوعة لا سيما للقاعدة العريضة من الناس، وعليه يُمكن كتابة التاريخ من أسفل إلى أعلى أو من القاعدة إلى القمة. ومن ناحية أخرى يُمكن من خلال هذه الروايات أخذ الدروس والعبر حول أحداث مرت بخيرها وشرها، وكذلك دحض الروايات الأحادية المغلوطة والزائفة، وتوثيق الحقائق للأجيال المتعاقبة.

ورغم ذلك فقد أشار الباحثون إلى أنَّ الجهود العربية في توثيق الرواية الشفوية لا تزال في بدايتها؛ بيد أن بعض الدول أدركت مبكرًا أن توثيق الرواية الشفوية لم يعد ترفًا؛ بل ضرورة ملحّة قبل أن تضيع معلومات مهمة تتعلق بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. خاصة بعد تعرض هذه الدول لمهددات خارجية قرعت جرس الإنذار بشأن خطورة الوضع؛ وذلك باستهداف طمس الذاكرة الوطنية، والقضاء على مفردات العيش المشترك من خلال تدمير الآثار والتراث الوطني المادي واللامادي حتى يفقد الناس ارتباطهم بهويتهم، وانتمائهم لأوطانهم. ومن جهة أخرى تبقى الروايات الموثّقة شاهد معاصر حي لأحداث مهمة يُستفاد منها كمادة علمية في الأبحاث والدراسات مع أهمية الأخذ في الاعتبار ضرورة تحليل هذه المادة وتمحيصها، وإخضاعها لمنهجية علمية صارمة.

وضمن رؤية "عُمان 2040" وتحديدًا أولوية المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية هنالك جهود مبذولة في هذا الجانب وما زالت كما أشرت سلفًا في هيئة الوثائق ووزارة الثقافة. وفي هذا المقام أود الإشارة كذلك إلى مشروع البرنامج الاستراتيجي للتراث الثقافي العُماني تحت مظلة مجلس البحث العلمي "سابقًا". وهدف هذا المشروع بشكل رئيس إلى دعم مشاريع بحثية ثقافية مهمة في التراث الثقافي غير المادي مثل توثيق اللهجات واللغات في عُمان، ومشروع الحكايات والأساطير المرتبطة بالأمكنة، وكذلك بحث الشخصيات العُمانية المشتغلة في التجارة والصناعة. وفي كل مشروع بحثي اختيرت عدة محافظات على أن يمتد المشروع لتغطية باقي المحافظات بشكل تدريجي. ووفقًا لخطة عمل المشروع أُنجزت دراسات نظرية وميدانية اعتمدت على جمع الروايات الشفوية لتوثيق موضوعات المشروعات البحثية كمرحلة أولى، وفي المرحلة الثانية للمشروع يتم إجراء دراسات تطبيقية للاستفادة من مخرجات تلك البحوث اقتصاديًا بما يحقق أهداف التنمية المستدامة.

وتأسيسًا على ذلك.. فإنّه من الأهمية بمكان استمرار مثل هذه المشروعات البحثية لأهميتها في توثيق المفردات الثقافية العُمانية من جهة، واستثمار مخرجاتها النظرية في الصناعات الإبداعية من جهة أخرى. وهذا يقودنا إلى التأكيد على أهمية العمل المؤسسي المنظّم من خلال كوادر بشرية مؤهلة، وإمكانيات مادية وفنية وغيرها، وتوظيف التقنيات الحديثة والمنصات الرقمية، وضرورة تكامل الجهود بين المؤسسات المختصة في مجال توثيق الروايات الشفوية والمؤسسات الأكاديمية والبحثية حتى نخرج بنتائج ايجابية وفقًا للخطط الوطنية المرسومة.

 

 

 

 

 

 

الأكثر قراءة