حميد بن مسلم السعيدي
عبرنا التاريخ، ورسمنا لوحة الإنجازات على جدران الزمن، شمَّرنا عن سواعد العطاء، فحققنا النجاحات؛ فكانت عُمان اسماً على شواطئ المحيط الهندي تمتد عبر سواحله، لتشكل إمبراطورية عظيمة كان شعارها السلام والتسامح، تركت إرثًا تاريخيًّا تمجده الشعوب، ورفعنا أسقف القلاع عاليًا؛ حيث كانت أبراجنا تحمي الحدود وتنظر للمستقبل، شامخة كشموخ جبال الحجر، ورؤوس الجبال حيث بوابة الخليج العربي صامدة عبر التاريخ ببسالة رجال عُمان.
فعبر هذا التاريخ العظيم الذي امتد لأكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد، كانت الإنجازات تتوالى لتمثل كيان عُمان التاريخي، والذي لا يزال مصدر عزتنا وافتخارنا من أجل بناء عُمان في المستقبل؛ فهذا التاريخ العظيم مرَّ بمراحل تاريخية كانت عُمان في الصدارة، واستطاع العُمانيون في كلِّ مراحلها أن تكون لهم الإنجازات العظيمة التي سجلها التاريخ بأسمائهم بأنهم عُمانيون، أبناء هذه الأرض الغالية التي أنجبتهم دون غيرهم، يحملون على صدورهم أمانة وطن وعزة أرض، فأحمد بن ماجد أسد البحار الذي وضع علم البحار، والخليل بن أحمد الفراهيدي في اللغة العربية، والمهلب بن أبي صفرة قائد راية الإسلام، وجابر بن زيد، وناصر بن مرشد اليعربي، وسعيد بن سلطان البوسعيدي، والكثير من الأسماء العُمانية التي خلدها التاريخ، تلك الذاكرة التي رَسَمها العُمانيون بأرواحهم الخالدة والتي أثمرت عن حضارة عريقة موغلة في القدم، فأصبح العمانيون أسيادَ البر والبحر، راسمين لوحة من الإنجازات العظيمة تركت إرثًا حضاريًّا.
فأعياد العمانيين هي احتفال بنجاحاتهم التي تتحقق يوما بعد آخر؛ فإنجازات هذا الوطن مستمرة في العطاء، ومسيرة العمل قائمة على بعزيمة المواطنين الأوفياء الذي لم يذخروا جهداً ولا وقتاً إلا كان من أجل رفعة عُمان وتحقيق النجاحات لبناء مستقبلها، مُستلهمين من قائد هذا الوطن جلالة السلطان قابوس بن سعيد روح العطاء والوفاء لأجل الوطن، واليوم نحن نحتفل بمرور ثمانية وأربعين على نهضة عُمان الحديثة، حيث كانت أبواب مسقط تغلق عند الغروب معلنة انتهاء يوم ما، تاركة خلفها شعبًا يعاني من الجهل والتخلف والفقر، تُغلق أمام الحضارة والعلم والتطور، فأغلقت خلفها كلَّ المبادرات نحو فتح أبواب المستقبل، وكان الظلام هو السيِّد في كل الأوقات، إلا أنَّ هناك كان من يستشعر أن مرحلة التغيير وبناء الوطن لابد من اعتلائها من أجل بناء عُمان؛ فركب صهوة التغيير، فعشق الأرض، وقاد سفينة عُمان عبر بحار المستقبل، "كان بالأمس ظلام، ولكن بعون الله غدًا سيُشرق الفجر على عُمان وعلى أهلنا"، فكان بزوغ إشراقة شمس عُمان مُعلنة عن يوم جديد بدأت معه مرحلة البناء والعودة للوطن، فأشرق النور عبر منارة رأس الحد ليمتد نورها عابراً للأرضي العُمانية، فاتحاً يوماً جديداً يسجل في ذاكرة التاريخ العُمانية.
واليوم نحن نحتفل بيوم تاريخي كان له دور في تغيير الحياة في عُمان؛ حيث الإنجازات الوطنية التي ظلَّت شاهدة على العمل الوطني "أن الشعوب حينما تحتفل بأعيادها الوطنية، إنما تفعل ذلك تمجيداً لأيام في تاريخها المشرق"؛ فمن حقنا أن نحتفل بأمجاد عُمان الوطنية، ومن حق كل مُوَاطن أن يحتفي بنوفمبر المجيد، هذا التاريخ الذي يمثل مرحلة فاصلة في تاريخ عُمان الحديث؛ حيث جاءت مرحلة التغيير نحو المستقبل، من أجل أن ينعم أبناؤه بخيراته، من أجل أن ينعم الإنسان بخيرات وطنه، ويشعر بمكانته التي أرادها باني هذه النهضة المباركة.
وهذه الاحتفالات هي تعبير عن حُبٍّ للوطن، ولكن المواطنة والوطنية ليست شعارات نتغنَّى بها بحُب الوطن، وإنما تجسيدٌ للعديد من الممارسات والأفعال التي نكُون مسؤولين عن أدائها في خدمته، فتقدم الدول والشعوب يقاس بالإنجازات الفكرية والاقتصادية، وليس بالشعارات والأغاني الوطنية فقط، رغم اعتبار ذلك جُزء من جوانب التعبير عن الوطنية، لكنه لا يُعد الركن الأساسي في المواطنة، علينا أن نحتفل بقيامنا بواجباتنا الوطنية؛ فالمواطنة ليست احتفالًا نعبر عنه في المناسبات الوطنية، وإنما أن نحتفل برسالتنا الوطنية في الإخلاص والأمانة في العمل، والكفاح من أجل عُمان وصناعة مستقبلها في كافة قطاعات الإنتاج والعمل، وألا نجعل مكانة للفساد أو الترهل أو الاختزال عند القيام بالواجب الوطني، نعم علينا أن نحتفل عندما نحقق الإنجازات الوطنية، نستلهم من الفكر السامي شعارًا للعمل الوطني "إن الأيام في حياة شعبنا لا تقاس بوحدات الزمن، وإنما بوزن ما تفتحه من آفاق، وما تلهمه من أفكار، وما حولته من آمال إلى واقع حي لتأخذ مكانها بين طلائع الشعوب"؛ لذا فالعمل الوطني هو رسالة وطنية نحملها على أكتافنا، لا يستطيع القيام بها إلا الأوفياء المخلصون، فهذا العمل ينبغي أن يكون نقيًّا خالصاً من أجل الوطن، ومن أجل أن نُحقق آمالَ هذا الوطن ورفعته، وهذه لن تتحقق إلا عندما نكافح في سبيل تحقيق الأهداف والغايات الوطنية، والعمل بكل إخلاص في المؤسسات التي ننتمي إليها، وأن نكون يد القانون والسلطة ويد العطاء، وأن نسهم في صناعة النجاح عندما يكون المسؤول مخلصا للوطن، وإلا نكون شركاء في صناعة الفساد والفشل والإخفاق، وأن نقول لا لكل مسؤول لا يُراعي الله تعالى ولا الوطن في الأمانة التي أوكلت إليه، فكلُّ مسؤول لا يطبق الأنظمة والقوانين والمعايير المؤسساتية علينا أن نقول له لا، علينا أن لا نكون مُساهمين في هذه الإخفاقات التي يرتكبها البعض، وأن نكون يد الأمر والنهي والتوجيه، فهؤلاء المسؤولون هم خدم من أجل الوطن، وموظفون يقومون بتأدية واجبات وظيفية، وإذا خالف هذه الأنظمة القوانين علينا أن نقول له لا، فعندما نقول للمسؤولين الذين يقدمون مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن لا، فأحيانا سنفقد الكثير من الترقيات والوظائف، لكننا سوف نكسب الوطن، نكسب روح هذا الوطن، ولكن علينا أن ندرك جيدا أن كل مسؤول مُحَاسَب عن تصرفاته وسلوكياته في المؤسسات، فإذا أخفقت عدالة الأرض في حصولنا على حقوقنا ستنصفنا عدالة السماء عندما يكون الوطن هو رسالتنا.
حيث نستلهم من التوجيه السامي لجلالته منارةٌ على جبهاتنا تدلُّنا على الطريق الصحيح: "إننا إذ ندعو كل عماني لتوجيه اهتمامه قبل كل شيء للعمل الجاد والمشاركة المسؤولة والمخلصة لبناء الوطن، فإننا نؤكد على ضرورة المحافظة على روح التآخي والمحبة التي تسود مجتمعنا العماني بجميع فئاته، وتعكس الترابط المتين بين أبناء هذا الوطن في كل أرجائه، والوقوف صفا واحدا ضد كلِّ من تُسوِّل له نفسه محاولة التأثير على هذا الترابط الذي يشل الدعامة الأساسية لقوة وازدهار بلادنا العزيزة في حاضرها ومستقبلها" قابوس بن سعيد 2009م.