وطنية البناء والمسؤولية

د. سيف بن ناصر المعمري

تغمرنا مشاعر الوطنية هذه الفترة بشكل استثنائي لا نشهده في بقية أشهر السنة؛ فالكل يُحاول أن يعلن للجميع وطنيته من خلال التعبير عن تفاعله مع العيد الوطني المجيد؛ سواء كان فردًا أو مؤسسة، حكومية أو خاصة، أو سواء كان مُواطنا أو وافدا. وتتباين أساليب إثبات الوطنية عند كل هؤلاء من رفع الإعلام على المنازل أو السيارات، أو تعليق على الأيقونات التي تجسد رموز البلد على الملابس، أو على الهواتف، أو تركيب الإضافات التي ترسم علم عُمان على المنازل أو المؤسسات؛ حيث يظهر المبنى وكأنه يكتسي ثوبًا وطنيًّا واحدًا باهيًا.

وهناك من يرسم حُبَّه للوطن على الكيك، الذي تتنوع أحجامه وأشكاله ومذاقاته، ويظهر الإبداع الذي تُولده الوطنية في الرسم بالحناء على اليدين، وكذلك في تصميم الفساتين للصغار والكبار، وفي تصميم العباءات، وبالرسم على الوجه بالأحمر والأبيض والأخضر تعبيرا عن الوطنية، ولا يقتصر إبهار الوطنية والإبداع الذي يتولَّد على الواقع فقط، وإنما يمتد إلى الصورة البصرية في شبكات التواصل؛ حيث يتبارى المخرجون والمصممون وغيرهم من المنشغلين بالتقنية وشبكاتها في توطين الوطن فيها، وإلى جعله افتراضيًّا كما هو واقعيًّا، وتظهر الحفلات الخاصة والحكومية مدى الإبداع الذي يُمكن أن تخلقه الوطنية، ودرجة الدقة والإتقان التي يمكن أن تظهر منها، وكيف تقدِّم هذه المؤسسة أو تلك أكبر بالونة، أو تعلق أكبر علم، أو تؤلف أفضل مقطع موسيقي، وبالتالي ترتفع قيمة الوطنية ويرتفع ثمن إثباتها تبعا لإمكانات الأفراد أو المؤسسات، ويبرز لنا اقتصاد جديد يمكن أن نطلق عليها "اقتصاد الوطنية" يمكن أن يسهم بدور كبير في تحقيق أهداف مزدوجة وطنية واقتصادية.

وبالتالي؛ تظهر الوطنية كمنتج اقتصادي أو كخدمة أو مادة خام يُمكن أن تتحول إلى سلعة تحقق عوائد اقتصادية كبيرة تستفيد منها مختلف القطاعات التجارية، وأيضا الحكومية؛ فترتفع أسهم بعضها تبعا لدرجات تعبيرها عن الوطنية أو احتفالها بها، ويظهر لنا كم هو مُكلِّف إثبات الوطنية وكم هو سَهل في نفس الوقت، وهذا السعي الحثيث لإثبات الوطنية ليس شيئا سلبيا، فالناس والمؤسسات يعبرون عن احتفالهم بهذه المناسبة العزيزة على قلوب الجميع، والتي تشير إلى فترة استثنائية في تاريخ البلد، ولكن ألا يُمكن تحرير الوطنية لتكون شيئا آخر نقتربُ فيه من معناها الحقيقي ونبتعد عن تسليعها؟

هذا السؤال نطرحه ونحن نستشعرُ معاني عميقة للوطن والنهضة والبناء والوطنية، وهي كلمات لها هيبتها ومدلولاتها التي يُمكن أن تعمَّق بشكل أفضل، ويمكن أن تثبت في أذهان الأجيال الجديدة بشكل مستدام وأبقى أثرا. إن تحرير الوطنية مما أُلحِق بها بات ضرورة ونحن نواجه تحديات المستقبل المختلفة الداخلية والخارجية، تحديات لن نتغلَّب عليها إلا بوطنية مختلفة، فيها تفكير وخيال وإبداع يتجسَّد في مشاريع نوعية لتمكين الإنسان من حبه وطنه بشكل عميق، وتمكين المؤسسات من العمل لأجل الوطن بشكل مستدام، وفيه تجسيدٌ للشراكة والمسؤولية الاجتماعية، وفيه إخلاص في تحقيق الأهداف، وإخلاص في بناء السياسات وإخلاص في جعل الإنسان العماني أولا وأخيرا. وحتى لا يختلف معي البعض -والوقت عيد- أنَّ مثل هذا الطرح ليس وقته، ويمكن أن يؤجل إلى وقت آخر، أقول إن هذه الوطنية التي نريد يجب أن نحرِّرها من التسليع والترميز، وهي تلك الوطنية التي أكد عليها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- في كثير من الخطابات بأنها وطنية البناء والمسؤولية وأداء الواجب، وزراعة الوطن بالأفعال لا بالأقوال؛ لأن الأفعال تُثمر مشاريع، والأقوال لا تثمر إلا أقوالا أخرى. هنا تثبت الوطنية بطريقة مختلفة، فيها عمل حثيث على صناعة المستقبل، عُمان لا تريد الكيك الملوَّن ولا تريد توزيعات كتوزيعات عيد الميلاد، ولا تريد أن تنفخ لها بالونة، عُمان أكبر من ذلك وتريد منكم شيئا بكبر قيمتها وبسموها، تُريد أشياء بحجم التحديات التي تواجهها وإن لم تستطيعوا أن تقدموا لها إلا الإخلاص لكفاها موردا تتغلب به على تحدياتها. إذن، دعونا نعمل على تحرير الوطنية لكي تكون ناصعة يستفيد منها الوطن.

وليحفظ الله سلطان البلاد المفدى، ويديم على عُمان الأمان، ويجعل من شعبها شعبا مباركا عامرا بالإخلاص والعطاء.