تدريس المواطنة الرقمية

 

حميد بن مسلم السعيدي

 

الثورة الرقمية التي اجتاحت العالم في العصر الحديث أحدثت تغييراً كبيرا في حياة الإنسان، وأصبحت تهمين على كل جوانب الحياة في ظل تحكم الإمبراطورية الرقمية، رافق ذلك ظهور عالم جديد على البشرية وهو العالم الافتراضي الذي يختلف تماماً عن العالم الحقيقي الذي نعيش فيه، فأصبحنا مواطنين نحمل هوية جديدة في هذا العالم، حيث يعيش الإنسان في وطن آخر غير الوطن الذي يتواجد به حالياً الأرض، فهناك مكان آخر يجد فيه الفرد حياة تختلف عن الحياة التي نعهدها، يتعايش معها ويمارس فيها بعض متطلبات حياته، إنه العالم الافتراضي هذا العالم الذي لا وجود له في المحسوسات ولكنه أصبح جزءًا من حياتنا لا يُمكن العيش بدونه، حيث يتفاعل الفرد مع بيئة افتراضية لها قوانينها وأنظمتها ومنظومتها، وتتحكم فيها العديد من العوامل تنمي تلك العلاقة بين الفرد والبيئة الافتراضية، وتسهم في بناء علاقات متعددة مع عالم جزء منه لا وجود له في الواقع.

فأصبحنا أحد مكونات هذا العالم الافتراضي نتعايش مع واقعه ونمارس فيه مواطنيتنا، ونكتسب منه العديد من القيم والاتجاهات والمبادئ، ننمي من خلاله معارفنا ومعلوماتنا، نبني معه علاقات اجتماعية مُتعددة، نسهم في تطوره ونحقق من خلاله طموحاتنا، فهو عالم يعتمد على التقنية بكل ما تتضمنه من إمكانيات وقدرات تُمكن الفرد من اختصار الوقت والجهد والمال في تحقيق أهدافه ومآربه في كافة المجالات، لذا ظهر مفهوم جديد مرتبط بهذا العالم وهو المواطن الرقمي الذي أصبح مواطنا في عالم افتراضي لا نراه بالواقع، ولكنه جزء من الحقيقية التي ينبغي التعايش معه وممارسة كافة الحقوق والواجبات في هذا العالم الجديد.

فالمواطن الرقمي يحاول استغلال كافة الإمكانيات التي توفرها الإمبراطورية الرقمية بما يساعده على التعايش والتكيف مع هذا العالم، فهذا التواصل لا يقتصر على الاتصال مع مواطنين رقميين فحسب وإنما ممارسة كافة الأنشطة الاقتصادية كالتجارة، والاجتماعية كالعلاقات الاجتماعية، والتعليمية من خلال التعامل مع منصات التعلم الإلكترونية، أو التعامل مع منصات الابتكار والاختراع، إذن هذا العالم الافتراضي تتواجد فيه حياة يمارس فيها المواطن كل ما يحتاج إليه، ولكن هذا الاستغلال لهذا العالم والاستفادة منه قسم المواطنين الرقميين إلى ثلاث فئات، تنوعت واختلفت ولكنها ارتبطت مع بعضها البعض، فالفئة الأولى المواطن الرقمي الإيجابي الذي يمتلك الوعي والمعرفة والفهم لهذا العالم وكل ما يتضمنه من جوانب إيجابية وسلبية، وقادر على الاستفادة من كافة الإمكانيات المتاحة وهذه الفئة القليلة، والفئة الثانية المواطن الرقمي الجاهل الذي لا يمتلك أدنى مستويات الوعي والمعرفة بهذا العالم الرقمي وهذه الفئة الكبيرة، والفئة الثالثة المواطن الرقمي السلبي والذي يمتلك المعرفة والوعي والفهم ولكنِّه يفتقد لقيم المواطنة، فيحاول استغلال الفئة الثانية المواطن الرقمي الجاهل ويعمل على استغلال كافة الوسائل في الحصول إلى أكبر حجم من الفوائد بالطرق السلبية والاحتيال والنصب والابتزاز الإلكتروني والاعتداء الأخلاقي والجسدي والتحرش اللفظي والنفسي والمعنوي، ويُحاول باستمرار ارتكاب الجرائم مستغلاً الإمكانيات الرقمية وانتشار الأمية الرقمية بين أفراد الفئة الثانية، مما يجعله يتحكم في مصير حياتهم في العالم الافتراضي في ظل انهيار للقيم والمبادئ والأخلاق التي نعرفها في العالم الحقيقي.

هذا الأمر يدفعنا للبحث عن خصائص المواطن الرقمي القادر على التعايش مع هذا العالم الافتراضي ويمتلك الحصانة الذاتية التي تمكنه من مواجهة التحديات والصراعات والاعتداءات في هذا العالم، بحيث يتمكن من حماية نفسه والاستفادة من كافة الإمكانيات الرقمية المتاحة، فلا يمكن اليوم أن نمنع أبناءنا أو مواطنينا من الولوج إلى هذا العالم الافتراضي، ولكننا قادرين على تهيئتهم وتدريسهم كيفية التعامل والتعايش معه، من خلال إكسابهم المعارف والمهارات والاتجاهات والخصائص الرقمية التي تمكنهم أن يكونوا مواطنين رقميين يمتلكون المعرفة والوعي بكافة الجوانب المتعلقة بالتواصل الرقمي، فهو بحاجة للقيم الرقمية التي تتضمن القيم والاتجاهات الإيجابية والمعايير للسلوك الرقمي والتواصل الرقمي وفقاً لقيم المُواطنة، ودوره في المشاركة في التواصل مع المجتمع والعمل على تثقيفه وتطوير معتقداته، وأنماط حياته، والالتزام بالقوانين والأنظمة فالتعامل الرقمي، ثم يأتي التعليم كأحد متطلبات المواطنة الرقمية والتي تتطلب من المواطن الرقمي أن يُعلم نفسه ويتعرف على القوانين والأنظمة الرقمية ويتعرف على كيفية التعامل واستغلال الإمكانيات الإلكترونية المتاحة، كما ينبغي عليه تعليم الآخرين وتوجيهم نحو السلوكيات الإيجابية في التعامل الرقمي، كما تعتبر التجارة إحدى خصائص المواطنة الرقمية حيث إن الإمكانيات المتاحة في مجال التجارة ينبغي الاستفادة منها خاصة وأن التسوق عبر الإنترنت يُحقق العديد من المكاسب المالية أكثر من التسوق العادي في العالم الحقيقي، في ذات الوقت تأتي الحماية والأمن الرقمي والتي تتطلب من المواطن أن يكون على مستوى عالٍ في كيفية حماية نفسه من خلال التعرف على الاحتيال الرقمي أو الابتزاز الإلكتروني، كما تعتبر الصحة الجسدية والنفسية أمرا في غاية الأهمية فهناك العديد من السلوكيات غير الصحية قد تضر كثيرا بحالة الإنسان الصحية والنفسية خاصة مع انتشار ظاهرة الانتحار بسبب الألعاب الإلكترونية.

كل هذه الخصائص ينبغي اليوم أن تدرس من خلال تضمين المواطنة الرقمية من المناهج الدراسية وفي برامج إعداد المعلمين قبل الخدمة وأثناء الخدمة بما يمكنهم من امتلاك الوعي الكافي في التعامل مع هذا العالم الافتراضي، فلا يُمكن أن نظل نستمع لتلك الإحصائيات التي تنشر عن قضايا متعلقة بالاحتيال الرقمي والابتزاز الإلكتروني، فهناك أعداد كبيرة من القضايا التي لم يتم الإبلاغ عنها للجهات الرسمية نتيجة لأسباب عديدة، لذا ينبغي أن نعمل على بناء الحماية الذاتية لدى الفرد بحيث يمتلك كافة الجوانب المتعلقة بالمواطنة الرقمية.