عمان تنسج الخيوط المتناقضة بإحكام

 

حمد العلوي

 

إنَّ زيارة رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي إلى مسقط في الأسبوع الماضي، ليست بالشِّر المطلق، فقد غطى ما أثير حولها من جدل شديد، أنه أتى لزيارة الرجل الفذ الحكيم وصاحب الرأي الرصين، جلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله وأمد في عمره وأبقاه - وهي زيارة أعلن عنها رسمياً.

لذا نقول إنّ من بطن الشِّر يُرجى الخير، ومن سُّم الأفاعي يؤخذ الترياق الشَّافي، فبداية أظهرت أن عُمان لا تعارض الرأي العام المحلي، فيترك للمرء أن يقول الرأي الحرُّ ما لم يضرُّ، وأثبتت عُمان أيضاً أنّه ما زال بمقدورها أن تجمع بين المعقول واللامعقول من جهة نظر الآخرين، أمّا عُمان فإنّها (وفي ظل سياسة سلطانها الحكيم) لا ترفع قوائم باللاءات الكثيرة في وجه الآخرين، وإيمانها بالحوار في حل المعضلات لا بالحروب والدمار، ولكنّها لا تغفل الاستعداد للحرب إذا ما فرضت عليها، وفي عقيدتها ومن خلال ما جرى في الوطن العربي، فليس كل من يُمعن في القتل هو إسرائيلي صهيوني، رغم أن ذلك يشهد عليه تاريخهم في قتل الأنبياء، ولكن هناك صهاينة عرب مسلمين ظلوا يفعلون الأفظع إلى اليوم، ومازالوا مستمرين بالفساد في الأرض.

إذن ليس من السهل أن تجمع بين المتضادات في بوتقة واحدة، وأنت لست لك عليهم سلطة قاهرة، ولكن عُمان تفعل ذلك بالسلطة المعنوية، وبما سطرته على صفحات التاريخ من ثبات على المبدأ، وصدق في المعتقد، لذلك ترسَّخ لعُمان في وجدان العالم المتحضر مجموعة من القيم عن العقيدة العُمانية، ومن أهمها المصداقية والوضوح، والشجاعة في قول الحق، والإخلاص للذات وللأمة العربية، ونهج طرق السلام لأجل مصلحة الجميع، والسعي بأخلاق وحسن نية من أجل عالم يخلو من المشاكل والمصائب.

لقد كانت عُمان ومازالت، تسعى - وعلى الدوام - إلى حل المشكلات بالطرق السياسية السلمية الهادئة، ومن غير ضجيج يوجع المسامع، ولا فهلوات إعلامية متصنَّعة، لذر الرماد في عيون الشعوب، فيوم وقف العالم العربي ضد مصر في موضوع كامب ديفيد، لم تفعل عُمان الشيء نفسه، لأنها تعلم إن دورها مساند في كل الأحوال، وقد ساندت بموقف ثابت كل من مصر وسوريا في حربهم ضد إسرائيل، ولكنَّها لم تساند العراق ودول الخليج في حربهم ضد إيران، لأنّها كانت ترى في ذلك سفكاً لدماء مسلمة في ألاعيب سياسية باطلة، ولكن موقفها من احتلال العراق لدولة الكويت، تغيّر تماماً فوقفت ضد الاحتلال، وكان الجيش العُماني أول الواصلين إلى قلب الكويت، وهذا درس عملي يوضح كُنه السياسة العُمانية، ومواقفها عميقة المعاني، وهي كثيرة تلك المواقف التي انتهجتها السلطنة، ولكن ضُعاف الذاكرة لا يمكن لهم تذكر ذلك، نتيجة أدلجتهم على التقلب بين المتناقضات، وبحسب التقلبات المرسومة لهم من الموجه.

وإذ فات الكثير من العرب معرفة السياق التاريخي لعُمان، وأنّهم يجدون مشقة في نبش كتب التاريخ، وذلك لمعرفة الأسس التي سارت عليها من قبل، وإذ نعفيهم من مشقة البحث والتمحيص عمَّا مضى، ولكن لا نستطيع أن نعفيهم من معرفة التاريخ المُعاش، وذلك خلال الفترة الممتدة من 23 يوليو عام 1970م إلى اليوم، وهو كتاب مفتوح للجميع، فنقول بوضوح وشفافية، هل جربتم على عُمان وسلطانها موقف مريب واحد؟ نعم قد يكون وقت حدوثه مريباً للبعض! ولكنّه بمرور الوقت حتماً قد ظهر لكم شيء واحد، ألا وهو أن القرار الذي اتخذته عُمان بالأمس القريب، قد أصبح اليوم واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار.

إننا في عُمان نعلم علم اليقين أنّ هناك من يُكابر ويُزايد، ليس لأنّ عُمان أضرته بشيء، لكنّه عجز أن يكون مثل عمان في شيء، وكما قال العالم المصري أحمد زويل- رحمه الله- عن سلوك العرب، أنّهم يحطِّمون الناجح للتساوي في الفشل، وفي الغرب يأخذون بيد الفاشل حتى ينجح للتساوي في النجاح، تُرى هل الشيطان الرجيم لا يعرف لغات غير اللغة العربية، ولهذا السبب استقر به المقام بين العرب؟! أم لأننا الشعوب الأكثر جهلاً، فتسلط علينا شياطين الأنس أكثر من شياطين الجن، فأشاعوا بيننا الحسد والتباغض.

لقد زارنا الأسبوع الماضي وفدان وليس وفد واحد، فقد زارنا أولاً الفلسطيني ثم الإسرائيلي، فالوفد الفلسطيني كان برئاسة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهذا أمر مألوف ومعروف، والوفد الثاني إسرائيلي برئاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهذا أمر مفاجئ وغير مألوف، ومع ذلك - وهنا أتكلم عني نفسي - فقد أذهلني الحدث ولم يرعبني، بل أنعش في النفس أملا بشيء ما، لأنني أعلم يقيناً أنّ أمراً يتولاه جلالة السلطان قابوس المعظم شخصياً، ويحيطه باهتمامه الخاص، فلا شك أنّ فيه مصلحة لعُمان والأمّة العربية، ولأنّ العالم أجمع يعرف أن جلالة السلطان قابوس لا يحب بهرجة الظهور، ولا يسعى إلى ذلك مطلقاً، وإن لم تكن هناك قيمة كبيرة للمسعى الذي يقوم به فلا يُشغل نفسه به، ويتركه ليعالجه غيره من المسؤولين.

وإننا لنتذكر بوضوح يوم ذهب لزيارة إيران بصورة عاجلة عام 2013؛ حيث تمخَّض عن تلك الزيارة الشهيرة، موقف عظيم أنقذ المنطقة والعالم من حرب مدمرة، كادت أن تقع في لحظة من اللحظات، فما تناقلت من معلومات عن تلك الزيارة العاجلة إنّ جلالته أعزّه الله، اتصل بالبريطانيين من إيران وأبلغهم خطورة الوضع، وهم من يرفع شوكة الحرب دائماً فإذا توقفوا أو تراجعوا تراجعت أمريكا معهم، فانكسر الضلع الثلاثي المتمثل في (بريطانيا، أمريكا وفرنسا) وهناك من السُّذج العرب من يشعر بالندم؛ لأنّ جلالة السلطان لم يترك الحرب أن تقع على سوريا، وكأنّهم سيحركونها بـ "الريموت كونترول" عن بد ولن يطالهم شيء منها، لأن هذا البعض ظلّ يحارب من خلال شاشات الكمبيوتر أمد تطويل، لذلك ظلّ عالق في أذهانهم إلى الآن والغد، أنهم يحلموا بافتعال الحروب دون أن يصيبهم شررها.

إذن لا أخفي عليكم أنّ شعوراً بالرضا تسلل إلى نفسي، وأنا أرى الصهيوني الذي أكره رؤيته، يَقدُم إلى مسقط ويقابل سيدي جلالة السلطان، وهو ينظر إلى جلالته في حبور وانبهار، لأنه يقابل السلطان قابوس نهاراً جهاراً في مسقط، وهو الرجل الذي حار فيه الكون لشجاعته وحكمته، وهو الرجل الذي لا يذهب خلسة تحت جنح الظلام ليقابله سراً على يخت في البحر، أو يدخل إليه من الأبواب الخلفية للفنادق، ليعينه في مؤامرة سوداء على شقيق، أو بالغدر على حاكم ليجلس محله.

إنَّ من دواعي شعوري بالرضا أيضاً أنّ في هذا اللقاء - وإن كان اليهود أصحاب غدر ومكيدة - إلا أن الحكمة العُمانية لن تنطلي عليها مراوغات اليهود، وستنتزع منهم حق الفلسطينيين، وستعيد القدس إلى أهلها - بإذن لله - وفيها فتوى من مفتى السلطنة، أنّها أرض حرام ملك ووقف للمسلمين، ولكن الشيء الأكبر والأهم من ذلك أنّ تنزع عُمان البساط الأسود من تحت أقدام صهاينة العرب، وستطوى به مؤامراتهم ودسائسهم على عُمان، وغيرها من الدول، وهذا الأهم والأخطر، لذلك يجب أن نخفض نسبة التشنج والتحنط بمقولات جوفاء تضر ولا تنفع، وأنّ من يدعون للطهارة والعفة، يقولون ذلك في العلن لذر الرماد في عيون الشعوب، أمّا في الكواليس والاجتماعات المغلقة، فيقال كلام آخر مختلف عن الواقع.

إذن عندما نقول ثقوا في عُمان، ولا تستعجلوا الحكم عليها، خاصة وأنّكم لم تجربوا على عُمان وسلطانها ولا شعبهما خبثاً ولا دسيسة، ولا نقيصة على مدى 48 عاماً، وهذا ليس بالزمن البعيد حتى تنسوا ولا تتذكروا، فعُمان لديها الشجاعة أن تقول رأيها دون خوف أو وجل، وعُمان يحميها شعبها، وإن كان البعض لا يصدق هذا قياساً على نفسه، ولكن عُمان لا تريد أن تقيم حفلة علاقات عامة لتعرِّف بنفسها، ولا تريد جيشاً من الذباب الإلكتروني ليسوِّقها، ولا تريد عشرات القنوات الفضائية الكاذبة لتشهرها، ولا تريد مليارات المليارات لترشيها لاستقرارها الداخلي، ولا تحتاج إلى مناشير لتهذب بها معارضيها، فهي تعرف ذاتها وتثق كامل الثقة في سلطانها، ونهجه السياسي المهذب المؤدب والواضح.

فجلالة السلطان - أعزّه الله – أسدى النصح والإرشاد، وذلك بأن قدَّم كلمة وأخّر أخرى، في خطاب رسمي في صلالة عام 2010م بمناسبة العيد الوطني الأربعين، فكما قال الشاعر، (الحرُّ بالتلميح والعبد بالتكويح) وجلالته يعلم أنّ الشعب العُماني شعب حر يقظ، لذلك يكون في نطقه السامي لمَّاح، إذن فإنّ الدول العريقة والعميقة في التاريخ، لا يُخشى جانبها؛ لأنّ الغدر ليس من بعض شيمها، فانتقدوا كما تشاؤوا، ولكن لا تتجاوزوا المعقول، وإن صبرتم سترون ثمار الحكمة العُمانية، كما رآها العرب من قبل حقيقة واقعة، وعُمان التي لا تحمل حقداً على أحد، ولا تشمت بأحد، ولكنها تتناسى لأجل مصلحة الأمة.

عاشت عُمان حرة أبية، فلا نامت أعين الخائنين الجبناء اللاعبين تحت جنح الظلام، اللهم احفظ جلالة السلطان واعفو عنه وعافِه يا رب العالمين.. اللهم آمين.